عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ مَكَّةَ -وَقَالَ قُتَيْبَةُ: دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ- وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، بِغَيْرِ إِحْرَامٍ). (صحيح مسلم، كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام)
بعد ما يقارب الثماني سنوات من الهجرة من مكة المكرمة، فتحها الرسول، صلى الله عليه وسلم، سلماً دون قتال ولا حرب، برعاية الله وتوفيقه وعونه، وذلك في العشرين من رمضان، من السنة الثامنة للهجرة، وتخلل يوم الفتح أجواء وإجراءات صدرت عن النبي، الأسوة، صلى الله عليه وسلم، وأعمال وأقوال نعمل على التذكير ببعض منها في هذه المناسبة الكريمة، ابتغاء نفع المؤمنين والقارئين، بإذن الله وعونه، ومن تلك الأجواء والإجراءات والأعمال والأقوال:
دخل مكة وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
الناس يهتمون بمتابعة أحوال القادة، خاصة وهم يقومون بأعمال جسيمة، وفتح مكة حدث عظيم في تاريخ الإسلام والمسلمين، وفي التاريخ البشري كذلك، انقلبت به كثير من الموازين والاعتبارات والمواقف، وعاد المهجرون رافعي الهامات يفتحون البلد العظيم الذي اضطرهم الاضطهاد والأذى إلى الهجرة منه إلى بلد بديل، أمنوا فيه على أنفسهم ودينهم، حتى تعاظمت قوتهم في فترة وجيزة تمت ببضع سنين.
الصحابي الجليل جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِي، في حديثه الصحيح أعلاه، يصف جانباً متعلقاً بحال النبي، القائد، صلى الله عليه وسلم، لما دخل مكة يوم الفتح، فيبن أنه دخلها وعليه عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وهذا ليس مناقضًا لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ) (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قتل الأسير، وقتل الصبر ) لإمكان أن تكون العمامة تحت المغفر، وقاية من صدأ الحديد، وتشعيثه، أو يكون نزع المغفر قد تم عند انقياد أهل مكة، ولبس العمامة، والله تعالى أعلم. (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5 /192)
وبين النووي أن قوله: "دخل مكة بغير إحرام" دليل لمن يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكاً، سواء أكان دخوله لحاجة تكرر؛ كالحطاب والسقاء والصياد وغيرهم، أم لم تتكرر؛ كالتاجر والزائر وغيرهما، سواء أكان آمناً أو خائفاً، ويذكر أن هذا أصح القولين للشافعي، وبه يفتى أصحابه. والقول الثاني لا يجوز دخولها بغير إحرام إن كانت حاجته لا تكرر، إلا أن يكون مقاتلاً، أو خائفاً من قتال، أو خائفاً من ظالم لو ظهر، ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء. (صحيح مسلم بشرح النووي، 9 /131-133)
تكليف ثلاثة قادة بدخول مكة من ثلاثة جوانب
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أنه ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: (أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ(1)، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ(2)، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي(3) وَرَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، في كَتِيبَةٍ(4)". (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة)
جاء في عون المعبود عن الحلبي، قوله: وجعل صلى الله عليه و سلم، الزبير على إحدى المجنبتين؛ أي وهما الكتيبتان تأخذ إحداهما اليمين، والأخرى اليسار، والقلب بينهما، وخالد على الأخرى، وأبا عبيدة على الرجالة، وقد أخذوا بطن الوادي، ولعل ذلك كان قبل الدخول إلى مكة. (عون المعبود، 9 /181)
وقد حرص الرسول، صلى الله عليه وسلم، على إنجاز فتح مكة سلماً، دون قتال، وسبق له لما بركت ناقته القصواء، في الحديبية أن قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا). (صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط)
مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ
قَال أبو هريرة: (فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ: "أَبُو هُرَيْرَةَ": قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "لاَ يَأْتِيني إِلاَّ أَنْصَارِي"، زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ، فَقَالَ: "اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ"، قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ(5) قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا، لَهَا وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاَءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: "تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ"، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: "حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا" قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلاَّ قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ(6)، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ". (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة)
يبين النووي أن الشافعي وموافقيه، استدلوا بقوله، صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ) على أن دور مكة مملوكة، يصح بيعها وإجارتها، لأن أصل الإضافة إلى الآدميين تقتضي الملك، وما سوى ذلك مجاز، وفيه تأليف لأبي سفيان، وإظهار لشرفه. (صحيح مسلم بشرح النووي، 12 /127)
الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ
ينتاب الإنسان ظناً أو تفكيراً معينين عند مواجهة موقف أو حالة ذات علاقة، وقد يصيب وقد يخطئ، والأنصار الذين آووا ونصروا المهاجرين، وعلى رأسهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتفانوا في تقديم العطاء والإيواء، وأثنى الله عليهم لذلك، انتابهم أو بعضهم لما وجدوا الطريق صار ميسراً للفتح والعودة إلى مكة، شعور أن دورهم انتهى، أو تقلص، فعبروا فيما بينهم عن هذا الشعور، والنبي، صلى الله عليه وسلم، بعد أن جاءه الوحي وبلغه عنهم ما قالوا فيما بينهم، استدعاهم، وأكد على عمق العلاقة التي تربطه بهم، وفي حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم، يقول رضي الله عنه: فَقَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْي، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْي لاَ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، حَتَّى يَنْقَضِىيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ"، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ" قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ، قَالَ: "كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ". فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ، وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلاَّ الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ". (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة)
فالرسول، صلى الله عليه وسلم، طمأن الأنصار بأنه لن يرجع عن هجرته الواقعة لله تعالى، بل إنه ملازم لهم، ومعنى "المَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ" أي: لا أحيا إلا عندكم، ولا أموت إلا عندكم، وهذا أيضاً من المعجزات، فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا، قالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصاً عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا، وهذا معنى قولهم: (مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلاَّ الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) أي: شحاً بك أن تفارقنا، ويختص بك غيرنا، وكان بكاؤهم فرحاً بما قال لهم، وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم، مما يستحيى منه. (صحيح مسلم بشرح النووي، 6 /235)
فنِعمَ العلاقة هذه التي تبنى على حب متبادل بين القائد وأتباعه، علاقة مفعمة بالحب، والثقة، والصدق، والوفاء، الأسوة الأمثل لها صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الغر الميامين، رضي الله عنهم، وأرضاهم.
طاف وسعى وحمد الله ودعا
قَالَ: (فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ، قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}(الإسراء: 81) فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلا عَلَيْهِ، حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ. (صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (دَخَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} (الإسراء: 81) (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر، أو تخرق الزقاق...)
فتح مكة أمره عظيم، تم بيمن الله ورعايته بسلاسة لحقت معاناة شديدة من الاضطهاد والتهجير والحروب، لكن التتويج كان بهذا الفتح الأعظم، الذي أحق الله به الحق، وأزهق الباطل، وعبر على إثره صلى الله عليه وسلم، عن امتنانه وشكره لله بالطواف والسعي، ورفع يديه حامداً داعياً، أن أتم الله له ولدينه وللمسلمين هذه النعمة، التي نسأله سبحانه ونتوسل إليه أن يكرمنا وعباد الله المخلصين، وبخاصة المستضعفين منهم والمضطهدين، في فلسطين والعالمين بفرج ونصر قريبين، يغير بهما الله هذا الحال بخير منه وأفضل، إنه سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم، على قائد الفتح المبين محمد، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الهوامش:
1. الْمُجَنِّبَتَيْنِ، بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر النون، هما الميمنة والميسرة، ويكون القلب بينهما. (صحيح مسلم بشرح النووي، 6 /235)
2. الْحُسَّرِ، بضم الحاء، وتشديد السين: أي الذين لا دروع عليهم. (المرجع السابق)
3. قوله: (فأخذوا بطن الوادي): أي جعلوا طريقهم في بطن الوادي . (المرجع السابق)
4. "في كتيبة" أي قطعة عظيمة من الجيش. (مرقاة المفاتيح، 12 /276)
5. وَوَبَّشَتْ: أي جمعت لها جموعاً من قبائل شتى، والأوباش والأوشاب الأخلاط. (تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، 1 /180)
6. معنى قول أبي سفيان: (أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ) أي استؤصلت قريش بالقتل وأفنيت، و(خضراؤهم) بمعنى: جماعتهم، ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة، ومنه السواد الأعظم. (صحيح مسلم بشرح النووي، 6 /235)
21 رمضان 1446هـ