يأمر الله بالتقوى، مبيناً أثرها على تحصيل المعارف والعلوم، فيقول عز وجل: {...وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282(
تم التعرض في الحلقة العاشرة إلى بعض الوعود الربانية للمتقين، والتي منها أن ييسرهم الله لليسرى، حسب الوعد الرباني لهم الوارد في آيات سورة الليل، وتم الوقوف كذلك عند الإشادة بمنازل المتقين في الآخرة، التي تكون نجاتهم فيها من العذاب، جزء مهم ورئيس من ثوابهم، فينجيهم الله من النار بمفازتهم، أي بسبب فوزهم، وقيل بفضائلهم.
وتفريج الكرب، والخروج من الأزمات بسلام وأمان، نعمة يمنها الله على عباده المتقين، بفضله سبحانه وعظمته وقدرته وإرادته، حيث وعد سبحانه المتقين بأن يجعل لهم من الضيق مخرجاً، وطمأنهم إلى تخليصهم من الأزمات التي تعترضهم، والإنعام عليهم بالرزق من حيث لا يحتسبون، ووعدهم سبحانه كذلك بأن يجعل لهم من أمرهم يسراً، وأن يعظم لهم أجراً.
اتقوا الله ويعلمكم الله
مكافأة المتقين صورها وأنواعها كثيرة، من ذلك وهبهم العلم وتوفيقهم فيه، مصداقاً لقوله تعالى المثبت نصه أعلاه من سورة البقرة، يقول الرازي: والمعنى أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين، {وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة. (التفسير الكبير،7/104(
يفسر القرطبي المراد بتعليم الله من اتقاه، بأنه وعد من الله تعالى، بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً، أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال:29) والله أعلم. (تفسير القرطبي، 3/406)
جاء في التسهيل لعلوم التنزيل أن {ويعلمكم الله} إخبار على وجه الامتنان، وقيل معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه، وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يعطيه، لأنه لو كان كذلك لجزم{يعلمكم} في جواب {اتقوا}. (التسهيل لعلوم التنزيل، 1/97)
أما الطبري، فيقول: بأن{وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} يعني يبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به، وأن {والله بكل شيء عليم} يعني من أعمالكم وغيرها، يحصيها عليكم ليجازيكم. (تفسير الطبري، 3/138)
الله مع المتقين
من ثمار التقوى التي ينعم بها المتقون، نيلهم المعية الربانية، حيث يقول سبحانه: {...وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ} (البقرة:194)
يفسر الرازي قوله تعالى: {أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}؛ أي بالمعونة والنصرة والحفظ والعلم، وهذا من أقوى الدلائل على أنه ليس بجسم، ولا في مكان، إذ لو كان جسماً لكان في مكان معين، فكان إما أن يكون مع أحد منهم، ولم يكن مع الآخر، أو يكون مع كل واحد من المؤمنين جزء من أجزائه، وبعض من أبعاضه، تعالى الله عنه علواً كبيراً. (التفسير الكبير، 5/115)
وفي موضع آخر من التفسير الكبير: يريد أن الله مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات، والاجتناب عن المحرمات، قال الزجاج: تأويله أنه ضامن لهم النصر. (التفسير الكبير، 16/45)
وفي تفسير أبي السعود: أي معكم بالنصر والإمداد فيما تباشرونه من القتال، وإنما وضع المظهر موضعه، مدحاً لهم بالتقوى، وحثاً للقاصرين عليه، وإيذاناً بأنه المدار في النصر، وقيل: هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم.(تفسير أبي السعود، 4/64)
ويقول عز وجل:{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: 128)
جاء في أضواء البيان، أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة يبين أنه مع عباده المتقين المحسنين، وهذه المعية بعباده المؤمنين هي بالإعانة والنَّصر والتوفيق، وكرر هذا المعنى في مواضع أخر: منها قوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:46)
وأما المعية العامة لجميع الخلق، فهي بالإحاطة التامة، والعلم ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا؛ فالكائنات في يده جل وعلا أصغر من حبّة خردل، وهذه هي المذكورة أيضاً في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {...وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ...} (الحديد:4)، فهو جل وعلا مستو على عرشه، كما قال، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. (أضواء البيان، 2/468- 469)
يقول الرازي: معيته بالرحمة والفضل والرتبة، وقوله: {الَّذِينَ اتَّقَوْاْ} إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى. (التفسير الكبير 20/114)
ويقول أبو السعود: والمراد بالمعية الولاية الدائمة، التي لا تحوم حول صاحبها شائبة شيء، من الجزع والحزن وضيق الصدر، وما يشعر به دخول كلمة (مع) من متبوعية المتقين، إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتقوى. (تفسير أبي السعود، 5/153)
فهذه وقفة أخرى مع بعض مناحي الأمر الرباني بالتقوى، والمثوبة الموعودة من الله عليها، عسى أن ييسر الله الوقوف عند مزيد من ثمار التقوى، وأن يشرح سبحانه صدورنا لهداه، ويلهمنا تقواه، لننال حبه ورضاه، وحب نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
16 شوال 1442هـ