.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أنزل الله سكينته عليه وعلى المؤمنين برسالته - الحلقة الأولى

==========================================================

أخبر الله عز وجل عن السكينة التي أنزلها على رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، فقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الكَافِرِينَ} (التوبة:25-26)
تشير الآية الخامسة والعشرون من سورة التوبة إلى الحالة الصعبة التي عاشها المسلمون بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت في غزوة حنين، لما أعجبتهم كثرتهم، فلم تغنِ عنهم من الله شيئاً، وكان من المدد الرباني الذي أنزله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين في أعقاب زلزلة حنين، أن أنزل عليهم السكينة، وهي تشمل الطمأنينة والسكون إلى الحق والثبات، والشجاعة عند البأس. (أضواء البيان، 7/397)
وأنزل الله جنوداً تؤازرهم دون أن يروها، وفي المقابل عذب الذين كفروا بالهزيمة والخزي، وما ذلك عليه سبحانه بعزيز، وهو على كل شيء قدير، وله الأمر من قبل ومن بعد، وإذا أراد شيئاً، فإنما يقول له كن فيكون.
يوم حُنين
تعرض القرآن الكريم لذكر يوم حُنين للتذكير بما جرى فيه من أحداث ونتائج، ومن الأحاديث التي تعرضت لذكر بعض أحداث هذا اليوم العظيم، وبخاصة فيما يتعلق بالاضطراب، الذي حصل للمسلمين فيه، حديث البَرَاء: وجاءه رجل، فقال: (يا أبا عُمَارَة؛ أتولَّيْتَ يوم حنين؟ فقال: أما أنا فأشهد على النبي، صلى اللَّه عليه وسلم، أنَّه لم يُوَلِّ، ولكن عَجِلَ سَرعان القوم، فَرَشَقَتْهُمْ هوازِن، وأَبو سفيان بن الحارث آخذٌ برأس بغلته البيضاء- يقول: "أنا النبي لا كَذِب، أنا ابن عبد المطلب". (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم...}(التوبة: 26)
وفي رواية: (أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَفِرَّ ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ، فَانْهَزَمُوا فَأَقْبَلَ المُسْلِمُونَ عَلَى الغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ البَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب)
وجاء في عمدة القاري، أن حنين وادٍ بَين مَكَّة والطائف، وَقَالَ الْبكْرِيّ: هُوَ وادٍ قريب من الطَّائِف بَينه وَبَين مَكَّة بضعَة عشر ميلًا. والأغلب عَلَيْهِ التَّذْكِير. لِأَنَّهُ اسْم مَاء.
وقَوْله: (إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم) إِمَّا بدل من: يَوْم حنين، وَالتَّقْدِير: أذكر إِذا أَعجبتكُم عِنْد الملاقاة مَعَ الْكفَّار كثرتكم فَلم تغن الْكَثْرَة عَنْكُم شَيْئا، وكلمة (ما) في {َضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} مصدرية، وَالْبَاء، بِمَعْنى: أَي: مَعَ رحبها، أَي: وسعهَا، (ثمَّ وليتم مُدبرين) أَي: منهزمين.
وَقَالَ ابْن جريج عَن مُجَاهِد: هَذِه أول آيَة نزلت من سُورَة بَرَاءَة، يذكر الله للْمُؤْمِنين فَضله عَلَيْهِم فِي نَصره إيَّاهُم فِي مَوَاطِن كَثِيرَة، أَن ذَلِك من عِنْده، لَا بعددهم وَلَا عَددهمْ، ونبههم إلى أَن النَّصْر من عِنْده، سَوَاء قل الجمع أَو كثر، فَإِن يَوْم حنين أعجبتهم كثرتهم، وَمَعَ هَذَا مَا أجدى ذَلِك عَنْهُم شَيْئا. قَوْله: (مُدبرين) إِلَّا الْقَلِيل، مِنْهُم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أنزل نَصره وتأييده على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ الَّذين كَانُوا مَعَه.
ووقْعَة حنين كَانَت بعد فتح مَكَّة، فِي شَوَّال سنة ثَمَان من الْهِجْرَة، وَذَلِكَ لما فرغ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من فتح مَكَّة، وتمهدت لَهُ أمورها، وَأسلم عَامَّة أَهلهَا، وأطلعهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بلغَة أَن هوَازن قد جمعُوا لَهُ ليقاتلوه، وأميرهم مَالك بن عون النضري، وَمَعَهُ ثَقِيف بكمالها، وَبَنُو جشم وَبَنُو سعد بن بكر وأوزاع من بني هِلَال، وهم قَلِيل، وناس من بني عَمْرو بن عَامر وَعون ابْن عَامر، وَأَقْبلُوا وَمَعَهُمْ النِّسَاء، والولدان وَالشَّاء وَالنعَم، وجاؤوا بقضهم وقضيضهم، فَخرج إِلَيْهِم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي جيشه الَّذين جاؤوا مَعَه لِلْفَتْحِ، وَهُوَ: عشرَة آلَاف من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وقبائل الْعَرَب، وَمَعَهُ الَّذين أَسْلمُوا من أهل مَكَّة، وهم الطُّلَقَاء فِي أَلفَيْنِ، فَسَار بهم إِلَى الْعَدو، فَالْتَقوا بوادٍ بَين مَكَّة والطائف، يُقَال لَهُ: حنين، فَكَانَت فِيهِ الْوَقْعَة من أول النَّهَار فِي غلس الصُّبْح، وانحدروا فِي الْوَادي وَقد كمنت فِيهِ هوَازن، فَلَمَّا توجهوا لم يشْعر الْمُسلمُونَ إلاَّ بهم قد ساوروهم، ورشقوا بالنبال، واصلتوا السيوف، وحملوا حَملَة رجل وَاحِد، كَمَا أَمرهم ملكهم، فَعِنْدَ ذَلِك ولَّى الْمُسلمُونَ مُدبرين، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى، وَثَبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ يومئذٍ على بغلته الشَّهْبَاء، يَسُوقهَا إِلَى نَحْو الْعَدو، وَالْعَبَّاس آخذ بركابه الْأَيْمن، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث ابن عبد الْمطلب آخذ بركابه الْأَيْسَر، يثقلانه لِئَلَّا يسْرع السّير، وَهُوَ يُنَوّه باسمه، وَيَدْعُو الْمُسلمين إِلَى الرّجْعَة، وَيَقُول: أَي عباد الله إِلَيّ أَنا رَسُول الله، وَيَقُول فِي تِلْكَ الْحَال: (أَنا النَّبِي لَا كذب ... أَنا ابْن عبد الْمطلب). (عمدة القاري، 17/294)
الاتعاظ من درس حنين
يتعرض المسلمون كغيرهم من الناس لحوادث الزمان، التي قدر الله أن تكون أيامه دولاً، مصداقاً لقوله عز وجل: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران:140) فدوام الحال من الحال، وكما يقال: يوم لك ويوم عليك، لكن المؤمن الموقن بمبادئ دينه وشرع ربه، يثبت على الحق فلا يغتر بنصر، ولا يحبط من هزيمة، فهو الشاكر الصابر، الذي قال فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) . (صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير)
الأحداث الراهنة التي يتعرض لوقعها شعبنا الفلسطيني الأبي، وبخاصة في قطاع غزة الصمود والإباء والبطولة والصبر، إذا ما أخضعت للمعايير الدينية، ومنها التي أعقب بيانها لأحداث مر بها المسلمون، أو آيات نزل بها الوحي الأمين، أو مواقف لخاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، لأمكن الاتعاظ واستخلاص العبر، فالأمر لله من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير، وما النصر إلا من عنده سبحانه، وهو القائل سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160)
فلا بأس على المستهدفين بنار الشر والقهر، ما داموا على العمل لمرضاة الله يحرصون، وبدين الله يتمسكون، فلن يخيب رجاؤهم، ولن يترهم الله أعمالهم، وسيعلم الذين ظلموهم أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.
آملين أن ييسر الله متابعة الحديث عن السكينة التي أنزلها سبحانه على المؤمنين وعلى رسوله، صلى الله وسلم وعليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
19 ربيع الآخر 1445هـ

تاريخ النشر 2023-11-03
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس