يقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (الفتح:4)
وقفت الحلقة السابقة عند قضية النجدة بالسكينة الربانية في غار ثور، فقد أشارت الآية الأربعون من سورة التوبة إلى ذلك، وفي تفسير المراد من السكينة المشار إلى إنزالها في قوله تَعَالَى: {فَأنْزلَ اللهُ سكينَتهُ عَلَيْهِ} (التوبة: 40)، قَولَانِ: أَحدهمَا: أنها أنزلت على النَّبِي، صلى الله عليه وسلم. وَالْآخر: أَنها أنزلت على أبي بكر، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين؛ لِأَن السكينَة هَاهُنَا مَا يسكن بِهِ الْقلب؛ وَأَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ هُوَ الْخَائِف والحزين دون رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن السكينَة نزلت عَلَيْهِمَا،ورجح الرازي أن الضمير في قوله تعالى: {عَلَيْهِ} في هذه الآية الكريمة يعود إلى أبي بكر، رضي الله عنه، وساق وجوهاً لتبرير ترجيحه هذا، وترافق مع الطمأنة إلى إنزاَل اللّه سَكِينَتَهُ والتأييد بِجُنُودٍ غير مرئيين للناس، الإخبار عن نتيجة هذا المدد الرباني النوعي، أن جَعَلَ الله كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى، وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا، والمراد بهم هُنَا المَلَائِكَة، نزلُوا فَألْقوا الرعب فِي قُلُوب الْكفَّار حَتَّى رجعُوا.
ووقفت الحلقة كذلك عند السكينة المنزلة تمهيداً لفتح مكة، والمشار إليها في الآية السادسة والعشرين من سورة الفتح، فأنزل الله سكينته يعني طمأنينته، على رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، فأذهب عنهم الحمية حتى اطمأنوا وسكنوا. وتم الاستدلال بهذين المثالين للسكينة، التي ينزلها الله على عباده، والتي تطمئن بها قلوب المؤمنين، ويدفع بها عنهم الفزع والاضطراب، وتم سؤال الله العلي القدير أن ينزل سكينته علينا، وعلى أهلنا في غزة، وعلى المستضعفين في أصقاع المعمورة، وهو سبحانه أعلم بالحال وما يقتضيه.
أَنزَلَ الله السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ
السكينة من السكون، والمراد بها هنا الثبات والطمأنينة التي أودعها- سبحانه- في قلوب المؤمنين، فترتب على ذلك أن أطاعوا الله ورسوله، بعد أن ظنوا أن في شروط صلح الحديبية ظلماً لهم. (التفسير الوسيط للطنطاوي، 13 /261)
فالآية الرابعة من سورة الفتح المثبت نصها أعلاه، تشير إلى غاية عقائدية عليا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، تتمثل في زيادة إيمانهم، ويبين السعدي في تفسيره، أن الله تعالى يخبر عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته، ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت، ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة، رضي الله عنهم، لما جرى بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيماناً مع إيمانهم. (البحر المحيط في التفسير، 9 /482)
وجوه إنزال السكينة وثمارها
بين سبحانه غاية من غايات إنزال السكينة على المسلمين بقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}(الفتح: 4)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا صَدَّقُوهُ زَادَهُمُ الصَّلَاةَ ثُمَّ الزَّكَاةَ ثُمَّ الصِّيَامَ ثُمَّ الْحَجَّ ثُمَّ الْجِهَادَ، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، فَكُلَّمَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ فَصَدَّقُوهُ ازْدَادُوا تَصْدِيقًا إِلَى تَصْدِيقِهِمْ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَقِينًا مَعَ يَقِينِهِمْ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي أَمْرِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ. (تفسير البغوي، 7 / 297)
وذكر إنزاله سكينته على المؤمنين في الآيات كلها، ولم يبين فيها موضع إنزال السكينة، وبين في هذه السورة الكريمة أن محل إنزال السكينة هو القلوب. (أضواء البيان، 7/397)
يبين الماوردي أن في المراد من إنزال السكينة في قلوب المؤمنين هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصبر على أمر الله. الثاني: أنها الثقة بوعد الله. الثالث: أنها الرحمة لعباد الله. وفي قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} احتمال ثلاثة أوجه كذلك، وهي: أحدها: ليزدادوا عملاً مع تصديقهم. الثاني: ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم، والثالث: ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء. (تفسير الماوردي، النكت والعيون، 5 / 311-312)
ومن فوائد وثمار إنزال السكينة التحلي بالشجاعة في مواجهة الخطوب، يقول صاحب كتاب العقائد الإسلامية: وإذا اطمأن القلب، وسكنت النفس.. شعر الإنسان ببرد الراحة، وحلاوة اليقين، واحتمل الأهوال بشجاعة، وثبت إزاء الخطوب مهما اشتدت، ورأى أن يد الله ممدودة إليه، وأنه القادر على فتح الأبواب المغلقة، فلا يتسرب إليه الجزع، ولا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً. (العقائد الإسلامية، 1 / 28)
جاء في تفسير المراغي: أن الله أنزل في قلوب المؤمنين طمأنينة وثباتَ أقدام عند اللقاء، ومقاتلة الأعداء (وهو المسمى في العصر الحديث الروح المعنوية في الجيوش) ليزدادوا يقيناً في دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم، واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوي الأحلام، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام، ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالاً شديداً، حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن راضياً عن هذا الصلح، وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ وكان للصديق من القدم الثابتة، ورسوخ الإيمان ما دل على أنه لا يجارى ولا يبارى. (تفسير المراغي، 26 /85-86)
جاء في باب بصيرة في السكون، في كتاب بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، أن بعض المشايخ كان إِذا اشتدّت عليه الأُمور قرأَ آيات السّكينة. ويُرْوَى عنه في واقعة عظيمة جرت له في مرضه يعجز العقول والقرائح عن حملها من محاربة أَرواح شيطانيّة ظهرت له في حال ضعف القوّة. قال: فلمّا اشتدّ عليَّ الأَمر، قلت لأَقاربي ومَن حَوْلِي: اقرءُوا آيات السّكينة. قال: ثمّ انقطع عنى ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة. وقد جرّبتها الأَكابر عند اضطراب القلب ممّا يَرِد عليه، فرأَوا لها تأْثيرًا عظيماً في سكونه وطمأْنينته. (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، 3/ 238، باب بصيرة في السكون)
لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
ليس من قبيل المصادفة أن يردف ذكر إنزال الله السكينة في قلوب المؤمنين في الآية الكريمة بالتنويه المباشر إلى أن لله جنود السماوات والأرض، فالسكينة من جنود الله، فكأن ذكرها قبل ذكر جند الله يكون من قبيل ذكر الخاص قبل العام لأهمية الخاص، والله تعالى أعلم.
فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر. (تفسير السعدي، 1/ 791)
وفي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيمِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى، يَنْصُرُ مَنْ شَاءَ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَمِنْ جُنْدِهِ السَّكِينَةُ ثَبَّتَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ. (البحر المحيط في التفسير، 9 /482)
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: ولله ملك السماوات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة. الثاني: معناه: ولله جنود السماوات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم. (تفسير الماوردي، النكت والعيون، 5 / 311-312)
فالله هو الذي يدبر أمر العالم، ويسلط بعض جنده على بعض، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق، ويجعل آخرين يقاتلون في سبيل الشيطان، ولو شاء لأرسل عليهم جنداً من السماء، فأباد خضراءهم، لكنه سبحانه شرع الجهاد والقتال، لما في ذلك من مصلحة هو عليم بها، وحكمة قد تغيب عنا، وهذا ما عناه بقوله: {وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}فهو لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. (تفسير المراغي، 26 / 85- 86)
فهذه مؤشرات قرآنية أخرى دالة على أن الله يسعف المسلمين بجنده وسكينته، وبخاصة لما يشتد الكرب بهم، نسوقها ونحن في ظرف نحتاج فيه، بل بأمس الحاجة لمدد الله وعونه وجنده وسكينته، وبخاصة في ظل الدمار الشامل الذي يشهده قطاع غزة الصابر المكلوم، سائلين الله العلي القدير أن يكفينا وأهلنا في غزة بما شاء وكيف يشاء من هذا الابتلاء الصعب، وأن يجعل لنا ولهم مخرجاً مما نحن فيه، يعز به ديننا، ويداوي به جراح عباده المستهدفين بحرب الإبادة البشرية، ويثبت به أقدامهم.
ونرجوه سبحانه أن ييسر متابعة الحديث عن السكينة التي أنزلها سبحانه على المؤمنين وعلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
3 جمادى الأولى 1445هـ