يقول الله عز وجل: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)
وقفت الحلقة السابقة عند الآية الخامسة والعشرين من سورة التوبة، التي أشارت إلى الحالة الصعبة التي عاشها المسلمون بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت في غزوة حنين، لما أعجبتهم كثرتهم، فلم تغن عنهم من الله شيئاً، وكان من المدد الرباني الذي أنزله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين في أعقاب زلزلة حنين، أن أنزل عليهم السكينة، وهي تشمل الطمأنينة والسكون إلى الحق والثبات، والشجاعة عند البأس، وأنزل الله جنوداً تؤازرهم دون أن يروها، وفي المقابل عذب الذين كفروا بالهزيمة والخزي، وأشارت الحلقة إلى تعرض القرآن الكريم لذكر يوم حنين للتذكير بما جرى فيه من أحداث ونتائج، ومن جوانب الاتعاظ من درس حنين، أن المسلمين كغيرهم من الناس، يتعرضون لحوادث الزمان، التي قدر الله أن تكون أيامه دولاً، فدوام الحال من المحال، لكن المؤمن الموقن بمبادئ دينه وشرع ربه، يثبت على الحق فلا يغتر بنصر، ولا يحبط من هزيمة، فهو الشاكر الصابر، وأمره عجب، فكله خَيْرٌ، والأحداث الراهنة التي يتعرض لوقعها شعبنا الفلسطيني الأبي، وبخاصة في قطاع غزة الصمود والإباء والبطولة والصبر، إذا ما أخضعت للمعايير الدينية، لأمكن الاتعاظ واستخلاص العبر، فالأمر لله من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير، وما النصر إلا من عنده سبحانه، الذي نسأله أن يكون عوناً للمستهدفين بنار الشر والقهر، الحريصين على العمل لمرضاة الله، وبدين الله يتمسكون، ولن يخيب رجاؤهم بعونه سبحانه، ولن يترهم الله أعمالهم، وسيعلم الذين ظلموهم أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ. النجدة بالسكينة الربانية في غار ثور
لم يقتصر ذكر السكينة التي أنزلها الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين على ما ورد بشأنها في الآية السادسة والعشرين من سورة التوبة، في أعقاب الإشارة إلى ضيق الأرض على المسلمين في غزوة حنين، وإنما ذكرت في مواضع قرآنية أخرى، كما في الآية الأربعين من سورة التوبة المثبت نصها أعلاه، التي بينت أن الله أنزل سكينته خلال رحلة الهجرة، لما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبو بكر، رضي الله عنه، في غار ثور، الذي تم اللجوء إليه في طريق هجرتهما من مكة المكرمة، فبين سبحانه أنه نصر رسوله، صلى الله عليه وسلم، في تلك الحادثة العظيمة، التي حاصر فيها المبعوثون من قبل قريش للقبض عليهما، وقد أعرب عليه الصلاة والسلام، عن ثقته المطلقة والعميقة بنصر الله وعونه ومدده، وطمأن صاحبه بقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}
وقَوْله تَعَالَى: {فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: على النَّبِي. وَهُوَ اخْتِيَار الزّجاج. وَالْآخر: أَنه على أبي بكر، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين؛ لِأَن السكينَة هَاهُنَا مَا يسكن بِهِ الْقلب؛ وَأَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ هُوَ الْخَائِف والحزين دون رَسُول الله، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن السكينَة نزلت عَلَيْهِمَا.(تفسير السمعاني:2/211-212)
ورجح الرازي أن الضمير في قوله تعالى: {عَلَيْهِ} في هذه الآية الكريمة يعود إلى أبي بكر، رضي الله عنه، وساق وجوهاً لتبرير ترجيحه هذا، منها أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر؛ لأنه تعالى قال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر: لا تحزن، وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر، فوجب عود الضمير إليه، وأن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر، لا للرسول، عليه الصلاة والسلام، فإنه كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش، فلما قال لأبي بكر: {لا تحزن} صار آمناً، فصرف السكينة إلى أبي بكر، ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس.(التفسير الكبير:16/53)
وترافق مع الطمأنة إلى إنزاَل اللّه سَكِينَتَهُ والتأييد بِجُنُودٍ غير مرئيين للناس، الإخبار عن نتيجة هذا المدد الرباني النوعي، أن جَعَلَ الله كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى، وقَوْله: {وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا} الْجنُود هَاهُنَا: الْمَلَائِكَة، نزلُوا فَألْقوا الرعب فِي قُلُوب الْكفَّار حَتَّى رجعُوا، وقَوْله: {وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى} كلمتهم: الشّرك؛ وَهِي السُّفْلى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {وَكلمَة الله هِيَ الْعليا} يَعْنِي: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهِي الْعليا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.(تفسير السمعاني:2/ 211-212)
السكينة المنزلة تمهيداً لفتح مكة
الآية السادسة والعشرون من سورة الفتح، تذكر إنزال السكينة على الرسول، صلى الله عليه وسلم، خلال صلح الحديبية وبعده، حيث يقول عز وجل: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}(الفتح:26)
جاء في صحيح البخاري، أن حَمِيَّتهُمْ كانت أَنَّهُمْ لم يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، ولم يُقِرُّوا ببسم اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.(صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط) ومعلوم أن هذا كان منهم يوم الحديبية.
فأنزل الله سكينته- يعني طمأنينته- على رسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، فأذهب عنهم الحمية حتى اطمأنوا وسكنوا، { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} يعني ألهمهم كلمة لا إله إلا الله حتى قالوها { وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} يعني كانوا في علم الله تعالى أحق بهذه الكلمة من كفار مكة، { وَأَهْلَهَا} يعني وكانوا أهل هذه الكلمة عند الله تعالى { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} يعني عليماً بمن كان أهلاً للإيمان وغيره. (تفسير السمرقندي:3/303)
فهذان مثالان دلت عليهما الآيات القرآنية، للسكينة التي ينزلها الله على عباده، وتطمئن بها قلوب المؤمنين، ويدفع بها عنهم الفزع والاضطراب، سائلين الله العلي القدير أن ينزل سكينته علينا وعلى أهلنا في غزة وعلى المستضعفين في أصقاع المعمورة، وهو سبحانه أعلم بالحال وما يقتضيه، ونرجوه سبحانه أن ييسر متابعة الحديث عن السكينة التي أنزلها سبحانه على المؤمنين وعلى رسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
26 ربيع الآخر 1445هـ