.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

أنزل الله سكينته عليه وعلى المؤمنين برسالته - الحلقة الرابعة

==========================================================

يقول الله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:18)
وقفت الحلقة السابقة عند المراد من السكينة التي أَنزَلَها الله فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فبينت أنها الثبات والطمأنينة، كما في الآية الرابعة من سورة الفتح التي تشير إلى غاية عقائدية عليا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، تتمثل في زيادة إيمانهم، فالله تعالى يخبر عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عباده في هذه الحال أن يثبتهم، ويربط على قلوبهم، ليتلقوا هذه المشقات بقلوب ثابتة، ونفوس مطمئنة، فيستعدون بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانهم، وذكر الله إنزاله سكينته على المؤمنين في الآيات كلها، ولم يبين فيها موضع إنزال السكينة، وبين في الآية القرآنية الرابعة من سورة الفتح أن محل إنزال السكينة هو القلوب. ومن أوجه إنزال السكينة على المؤمنين: الصبر على أمر الله، والثقة بوعده سبحانه، وأنها الرحمة لعباد الله. ومن فوائد إنزال السكينة وثمارها التحلي بالشجاعة في مواجهة الخطوب، (وهو المسمى في العصر الحديث الروح المعنوية في الجيوش) ليزدادوا يقيناً في دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم، واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوي الأحلام، مع الإشارة إلى أن بعض السلف كان إِذا اشتدّت عليه الأُمور قرأَ آيات السّكينة. وليس من قبيل المصادفة أن يردف ذكر إنزال الله السكينة في قلوب المؤمنين في الآية الكريمة بالتنويه المباشر إلى أن لله جنود السماوات والأرض، فالسكينة من جنود الله، فكأن ذكرها قبل ذكر جند الله يكون من قبيل ذكر الخاص قبل العام لأهمية الخاص، والله تعالى أعلم. فالله هو الذي يدبر أمر العالم، ويسلط بعض جنده على بعض. والله يسعف المسلمين بجنده وسكينته، وبخاصة لما يشتد الكرب بهم، وهذه حقيقة إيمانية يجدر تذكرها دائماً، وبخاصة في مثل ظرفنا الحالي الذي نحتاج فيه إلى مدد الله وعونه وجنده وسكينته، ليكفينا وأهلنا في غزة بما شاء، وكيف يشاء من هذا الابتلاء الصعب، وأن يجعل لنا ولهم مخرجاً مما نحن فيه، يعز به ديننا، ويداوي به جراح عباده المستهدفين بحرب الإبادة البشرية، ويثبت أقدامهم.
إنزال السكينة على أهل بيعة الرضوان
تذكر الآية الثامنة عشرة من سورة الفتح، المثبت نصها أعلاه أن الله جل شأنه، رضي عن المؤمنين الذين بايعوا النبي، صلى الله عليه وسلم، تحت الشجرة، مشيرة بذلك إلى بيعة الرضوان، التي كان من ثمارها بالإضافة إلى نيل المبايعين فيها رضا الله عنهم، أن أنزل سبحانه السكينة عليهم، وأثابهم فتحاً قريباً، وهذه المبايعة كانت يوم الحديبية، وتسمى بيعة الرضوان لنزول القرآن بالرضا عمن بايعوا فيها. وعن فضل هذه البيعة يقول الصحابي البَرَاء، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَالحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ، فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَدَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا» (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية)
ومما جاء في المراجع الدينية عن قصة بيعة الرضوان ومكانها وزمانها وأسبابها عن الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالاَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ المَاءِ، يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ... ) (صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط)
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: (كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةً، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةٌ، وَقَالَ: «بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ) (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة)

وقال قتادة: بايعوهُ يومئذٍ وهم ألف وأربعمائة رجل، وكان عثمان يومئذٍ بمكة. فقال النبي، صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ الله وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَحَاجَةِ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ وضع إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه بَيْعَةُ عُثْمَان»، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ أي: مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الصدق والوفاء، وهذا قول ابن عباس، وقال مقاتل: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الكراهية للبيعة على أن يقتلوا، ولا يفروا. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} (الفتح: 18)، يعني: أنزل الله تعالى الطمأنينة، والرضا عليهم. {وَأَثابَهُمْ} يعني:أعطاهم. {فَتْحاً قَرِيباً} يعني: فتح خيبر. (تفسير السمرقندي، 3 /316-317)
نعمة طمأنة القلوب بالسكينة
الطمأنة بالسكينة نعمة يتفضل الله بها على من يرأف بهم سبحانه من عباده، وبخاصة عند تعرضهم للشدائد والابتلاءات، ومن مسببات استجلاب الطمأنة الربانية الإيمان وذكر الله، حيث يقول جل شأنه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28)
والله جل في علاه طمأن المسلمين لمدده وعونه، وبخاصة وهم يواجهون المصاعب والمشاق، فقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:126)، وتكرر ذكر هذه الطمأنة في سورة الأنفال، فقال تعالى فيها: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 10)
فلا عجب إذن أن تتنزل السكينة الربانية على المسلمين لتطمئن قلوبهم بها وهم يتعرضون للكيد والتنكيل والقتل والتشريد، فتنزلها عليهم يقوي عزائمهم، ويثبت أقدامهم، ويشد من عضدهم، سائلين الله العلي القدير أن ينزل السكينة على أهل فلسطين المستهدفين بالقتل ومشاريع الإبادة والتهجير، وبخاصة أهل غزة منهم، الذين يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، وآلة الفتك تلاحقهم أينما ذهبوا، فكان الله في عونهم، وأنزل سكينته عليهم، وفرج كربهم، وأمدهم برعايته وحفظه وسلوانه وطمأنته.
ونرجوه سبحانه أن ييسر لاحقاً ختم الحديث عن السكينة التي أنزلها سبحانه على المؤمنين وعلى رسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
10 جمادى الأولى 1445هـ

تاريخ النشر 2023-11-24
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس