.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

اصطفاه الله من بني هاشم - الحلقة الأولى

==========================================================

عن وَاثِلَةَ بن الْأَسْقَعِ، أنه سمع رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسماعِيل، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) (صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة وتسليم الحجر قبل النبوة)
مع اقتراب ذكرى المولد النبوي، يستذكر المسلمون خصائص النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وما امتاز به من أمور، وبخاصة تلك المرتبطة برسالته ونبوته، ومن الميزات العظيمة التي خصها الله بها، أن اختاره من نسب عريق وشريف، مما دفع عنه الاعتراض الذي يمكن أن يحمل لواءه أناس لو لم تكن له هذه الميزة، وفي حديث وَاثِلَةَ بن الْأَسْقَعِ المثبت نصه أعلاه، يفصح النبي، صلى الله عليه وسلم، عن نسبه المتصل بأبي الأنبياء إبراهيم، عليه السلام، فالله اصطفاه من بني هاشم، التي يعود نسبها إلى قريش المتجذرة من كنانة، والتي بدورها يرجع نسبها إلى ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، جاء في مرقاة المفاتيح، أن الله اصطفى قريشاً من كنانة وهم أولاد نضر بن كنانة، كانوا تفرقوا في البلاد، فجمعهم قصي بن كلاب في مكة، فسموا قريشاً؛ لأنه قَرَشَهُمْ أي جمعهم، ولكنانة ولد سوى النضر، وهم لا يسمون قريشاً لأنهم لم يقرشوا. (مرقاة المفاتيح، 10/420- 421)
ومعنى الاصطفاء والخيرية في هذه القبائل، ليس باعتبار الديانة، بل باعتبار الخصال الحميدة. (التيسير بشرح الجامع الصغير، 1/245)
الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا
في حديث ابن عباس الصحيح والمطول، حول النقاش الذي دار في القدس بين هرقل وأبي سفيان، لما قدم الأخير الشام مع ركب من التجار، سأل هرقل أولاً عن الأقرب نسباً للنبي، صلى الله عليه وسلم، من أفراد الركب، فأجابه أبو سفيان بأنه الأقرب نسباً منه، وذلك كما جاء في مطلع حديث ابن عباس، الذي يقول فيه: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ أخبره (أَنَّهُ كان بالشَّأْم في رِجَالٍ من قُرَيْشٍ، قَدِمُوا تِجَارًا في الْمُدَّةِ التي كانت بين رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قال أبو سُفْيَانَ، فَوَجَدَنَا رسول قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأم، فانطُلقَ بِي وَبِأَصْحَابِي، حتى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عليه، فإذا هو جَالِسٌ في مَجْلِسِ مُلْكِهِ، وَعَلَيْهِ التَّاجُ، وإذا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، فقال لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إلى هذا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قال أبو سُفْيَانَ: فقلت: أنا أَقْرَبُهُمْ إليه نَسَبًا، قال: ما قَرَابَةُ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ فقلت: هو ابن عَمِّي، وَلَيْسَ في الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ من بَنِي عبد مَنَافٍ غَيْرِي، فقال قَيْصَرُ: أَدْنُوهُ، وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي، ثُمَّ قال لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لِأَصْحَابِهِ: إني سَائِلٌ هذا الرَّجُلَ عن الذي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ، قال أبو سُفْيَانَ: والله لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ من أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ، لَكَذَبْتُهُ حين سَأَلَنِي عنه، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي، فَصَدَقْتُهُ، ثُمَّ قال لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ له: كَيْفَ نَسَبُ هذا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قلت: هو فِينَا ذُو نَسَبٍ...) (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله)
وسأل هرقل أبا سفيان أسئلة أخرى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعوته، ثم وضح أموراً تتعلق بالإجابات التي تلقاها من أبي سفيان عن أسئلته، فقال هرقل لأبي سفيان: (إني سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا) (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله)
سيد ولد آدم
جاء في الحديث الصحيح عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يوم الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ من يَنْشَقُّ عنه الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) (صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا، صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق )
وقد أورد الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث الشريف قول الهروي بأن السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم.
ويبين النووي بأن قوله صلى الله عليه وسلم (يوم القيامة) مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى مناع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا، فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار، وزعماء المشركين.
وقوله صلى الله عليه وسلم (أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) لم يقله فخراً، بل صرح بنفي الفخر في غير مسلم، ففي سنن الترمذي ضمن حديث مطول، عن أبي سَعِيدٍ قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ ولا فَخْرَ) (سنن الترمذي، ، كتاب المناقب، باب منه، وقال عنه الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح)
وإنما قاله لوجهين: أحدهما امتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11)
والثاني أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته؛ ليعرفوه ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه، صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته، كما أمرهم الله تعالى. (صحيح مسلم بشرح النووي، 15/37، بتصرف)
فهذه وقفة متواضعة يسرها الله عند ميزة مهمة من مزايا النبي محمد، صلى الله عليه وسلم وخصائصه، سائلين الله العلي القدير أن يوفق للوقوف عند مزيد من أبعاد هذه الخاصية لاستلهام العبر والعظات، التي يؤمل أن تعزز إيماننا وحبنا لنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

تاريخ النشر 2023-09-15
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس