عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (فُضِّلْتُ على الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ؛ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إلى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ) (صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة)
ضمن سياق الحديث عن قضايا وموضوعات ذات صلة بشرف نسب النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ اصطفاه الله من بني هاشم، المنحدرين من سلالة مميزة النسب، وقفت الحلقة السابقة عند قضية الإيمان بالرسل والأنبياء دون تفريق بينهم فيه، فنسب النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يحدث خللاً في عقيدة الإيمان بالرسل والأنبياء، فالإيمان به وإياهم عليه وإياهم الصلاة والسلام، من أركان الإيمان التي تقوم عليها عقيدة الإسلام.
وبينت الحلقة أن الارتكاز للمزايا الخَلْقية أو النسبية ينبغي أن يكون دائماً وفي الأحوال جميعها ضمن حدود ما شرع الله، ولما يكون الطغيان في بعض جوانب هذا الارتكاز، يكون الشطط، ومن النماذج التي تجلى فيها مثل هذا الشطط بوضوح، غرور إبليس بخيرية خلقته، الذي دفعه للمعصية، ونيل سخط الله، وهكذا يتعالى بعض الناس على الآخرين؛ لانتسابهم لعائلة معينة، تتمتع بصفات القوة والجاه، لكن اصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسب عريق لم يختلط بحال من الأحوال بأي منهج منحرف، فكان طاهراً نقياً من انحراف إبليس، ومن أي خلل غروري يمكن أن تجول به الخواطر والتصورات السلبية المنبعثة من مجموع المزايا التي خص الله بها بعض خلقه.
أمور تميز بها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن سائر الأنبياء، عليهم السلام
لكل نبي ميزات خصه الله بها، فمثلاً آدم، عليه السلام، خلقه الله من غير أب ولا أم، وعيسى، عليه السلام، ولدته أمه دون أن يكون لها زوج، ونفخ الله فيه من روحه، وموسى، عليه السلام، كليم الله، وانقلبت خاصية النار التي أُلقيَ فيها إبراهيم، عليه السلام، إلى نقيض طبعها، فكانت برداً وسلاماً عليه بأمر الله، ووهب الله له ابنيه؛ إسماعيل وإسحق وهو شيخ كبير، وامرأته عجوز عقيم، وسخر الله مع داود الجبال يسبحن والطير، ولسليمان الريح التي بارك فيها، ومن الشياطين من يغوصون له، وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين لهم ميزاتهم وخصائصهم، والرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، يبين في الحديث المثبت نصه أعلاه أنه فضل على الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ؛ وفي مرقاة المفاتيح، شرح لمعاني بعضها، إذ المقصود بـ (جَوَامِعَ الْكَلِمِ) قوة إيجاز في اللفظ، مع بسط في المعنى، فيبين بالكلمات اليسيرة المعاني الكثيرة.
وقيل: إن جوامع الكلم هي القرآن، جمع الله سبحانه بلطفه معاني كثيرة في ألفاظ يسيرة، وقيل: إيجاز الكلام في إشباع من المعنى، فالكلمة القليلة الحروف منها تتضمن كثيراً من المعاني، وأنواعاً من الكلام.
وقوله: (وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ) أطلقه هنا، وقيد في روايات أخرى بمسيرة شهر، كما في رواية البخاري عن جابر بن عبد الله.(صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي، صلى الله عليهوسلمر: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)
(وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ) أي لأجلي على أمتي.
(وأرسلت إلى الخلق كافة)؛ أي إلى الموجودات بأسرها عامة، من الجن والإنس والملك والحيوانات والجمادات، (وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)؛ أي وجودهم، فلا يحدث بعدي نبي. قال الطيبي: أغلق باب الوحي، وقطع طريق الرسالة وسد، وأخبر باستغناء الناس عن الرسل، وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجة، وتكميل الدين كما قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}(المائدة: 3) (مرقاة المفاتيح، 10/427-428، بتصرف)
ويبين الإمام العيني أن قوله صلى الله عليه وسلم: (وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا) يدل على جواز الصلاة على أي جزء كان من أجزاء الأرض. (عمدة القاري، 4/194)
وثبت في صحاح السنة إخبار عن أمور أخرى تميز بها النبي، صلى الله عليه وسلم، عن سائر الخلق، منها أنه أُعطي الشفاعة. (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرض، أو مَفَاتِيحَ الأرض) (صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد)
وهو سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يوم الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ من يَنْشَقُّ عنه الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ. (صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا، صلى الله عليه وسلم، على جميع الخلائق)، وما إلى ذلك من الخصائص التي خصه الله بها.
فليس الاصطفاء من النسب العريق يتيماً في خصائصه، عليه الصلاة والسلام، وإنما تعاضده خصائص أخرى تميز بها بفضل الله وتوفيقه سبحانه، ذكر في الحديث أعلاه ستاً منها، وذكرت أخرى في روايات صحيحة أخرى، يضيق المجال هنا لتفصيلها.
وناقش العيني في عمدة القاري مسألة تعدد الروايات في تحديد أعداد خصائصه، صلى الله عليه وسلم، فقال: وإذا تأملت وجدت هذه الخصال اثنتي عشرة خصلة، ويمكن أن توجد أكثر من ذلك عند إمعان التتبع، وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب: (شرف المصطفى) أن الذي اختص به نبينا من بين سائر الأنبياء، عليهم السلام، ستون خصلة، ولدحض ظاهر التعارض بين ذكر الخمس والست والثلاث، يقول القرطبي: لا يظن أن هذا تعارض، وإنما هذا من توهم أن ذكر الأعداد يدل على الحصر، وليس كذلك، فإن من قال: عندي خمسة دنانير مثلاً، لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول مرة أخرى عندي عشرون، ومرة أخرى ثلاثون، فإن من عنده ثلاثون، صدق عليه أن عنده عشرين وعشرة، فلا تعارض ولا تناقض، ويجوز أن يكون الرب سبحانه وتعالى أعلمه بثلاث، ثم بخمس، ثم بست، وهنا يقول العيني: حاصل هذا أن التنصيص على الشيء بعدد لا يدل على نفي ما عداه. (عمدة القاري، 4/8 بتصرف)
خاتمة
بعد الاطلاع على ما تيسر من متعلقات اصطفاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسب عريق، يحلو لنا أن نستبشر خيراً أن آمنا بنبوته، صلى الله عليه وسلم، وحرصنا أشد الحرص على التأسي به، واقتفاء سنته، عسى أن يتحقق لنا بذلك حبنا الصادق له، ونسأله سبحانه أن يحشرنا معه يوم القيامة، وأن يسقينا من حوضه شربة ماء، لا نظمأ بعدها أبداً، إنه نبينا وهادينا وشفيعنا، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
21 ربيع الأول 1445هـ