.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

بعثه الله ليبتليه ويبتلي به - الحلقة الثانية

==========================================================

يخاطب الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، في القرآن الكريم قائلاً:{قُلْ لَّنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(التوبة:51)
وقفت الحلقة السابقة عند الشرح المجمل لمعاني حديث عِيَاضِ بن حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، الذي تناول إخباراً عن أمور عقائدية ذكرها النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبته، والتي بدئت ببيان أن هذا الإخبار كان بأمر الله للإفصاح عما جهله المخاطبين، ومن ضمن ذلك أن الله بعثه صلى الله عليه وسلم، ليبتليه، ويبتلي به، ومعناه ليمتحنه بما يظهر منه، من قيامه بما أمره الله به، من تبليغ الرسالة، ومن الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى، وغير ذلك، ويبتلى به من أرسله إليهم، فمنهم من يظهر إيمانه، ويخلص في طاعاته، ومنهم من يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق، والمراد أن يمتحنه ليصير ذلك واقعاً بارزاً، إضافة إلى بيان أمور أخرى ذكرت في الحديث الشريف، التي تم اقتباس شرحها المجمل من شرح النووي على صحيح مسلم، ويمكن الوقوف عند بعض الأمور المتضمنة في هذا الحديث من خلال المحاور الرئيسة الآتية:
الابتلاء بالقتل وغيره قدر مكتوب
الآية الكريمة الحادية والخمسين من سورة التوبة المثبت نصها أعلاه، يأمر فيها رب العزة الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يبلغ بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وبما أن الابتلاء جزء مما يصيب الناس، فهو قدر مكتوب، وتؤيد هذا البيان القرآني آيات قرآنية أخرى كثيرة، كقوله تعالى: {... يَقُولُونَ هَلْ لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(آل عمران:154)
فقوله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} أي لو لم تخرجوا إلى أحد وقعدتم بالمدينة، كما يقولون {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز.
{ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} إلى مصارعهم التي قدر الله تعالى قتلهم فيها، فإن قضاء الله تعالى لا يرد، وحكمه لا يعقب، وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة، حيث لم يقتصر على تحقيق القتل نفسه، كما في قوله عز وجل: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}(النساء: 78)، بل عين مكانه أيضاً، ولا ريب في تعين زمانه أيضاً، لقوله تعالى: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(الأعراف: 34)(تفسير أبي السعود:2/102)
ويبين عبد الحق الأندلسي أن قوله تعالى: { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ...الآية} إعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل، على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل.
والابتلاء في قوله تعالى: { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ... الآية} الاختبار والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى ليختبره فيعلمه علماً مساوقاً لوجوده، وقد كان متقرراً قبل وجود الابتلاء أزلاً،
و{... بذَاتِ الصُّدُورِ} ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية.(المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز:1/529)
اليقين بكتابة الابتلاء لا يتناقض مع لزوم السعي والعمل
يخطئ بعض الناس في الإخفاق بالتوفيق الواجب بين اليقين بكتابة الابتلاء، ولزوم السعي والعمل، فالقدر المكتوب حتم لازم، لكنه غير مكشوف للخلق، ويبقى مخفياً حتى تقع الوقائع والحوادث، والناس عليهم السعي وبذل الجهد، والنتائج تبقى قدراً مقدراً، فالمكتوب ليس عنه مهروب، ولو صبر القاتل على المقتول لمات حتف أنفه، ولو كان الناس في حصونهم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، ومن الأحداث التاريخية ذات الصلة ما جرى من فرعون من قتله للمواليد خوفاً من أن يكون منهم من يجري على يده القضاء عليه، فقتل ما قتل، ولما جيء بموسى، عليه السلام، إليه استبقاه، تلبية لطلب من زوجه ومقترحها، وعن هذا يقول عز وجل: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(القصص:9) فبدلاً من أن يقتلوه كتب الله له أن ينشأ في رعايتهم وكنف قصورهم، ويوسف، عليه السلام، ألقاه إخوته في البئر ليتخلصوا منه، فقدر الله له أن يؤتى به إلى قصر عزيز مصر، وعن هذا يقول سبحانه: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(يوسف:21)
والإيمان بالقدر لا يعني الاستسلام للكسل وترك العمل، فأمر الله سبحانه بالمشي في الأرض طلباً للرزق، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك:15)، وأمر جل في علاه بالنفير في سبيل الله وبأخذ الحذر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً}(النساء:71)
فالله بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، ليبتليه، ويبتلي به، كما جاء في الحديث القدسي سالف الذكر: (وقال إِنّما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ، وأَبْتَلِيَ بِكَ...) (صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار)، وذلك لغايات أرادها سبحانه، راجين أن يوفق الله تعالى إلى متابعة الوقوف عند مزيد من معاني هذا الحديث الشريف، وما يرشد إليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
22 شوال 1444هـ

تاريخ النشر 2023-05-12
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس