.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

تمنى الشهادة في سبيل الله - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

عن أَبي هُرَيْرَةَ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ). (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان)
وقفت الحلقة السابقة عند حديث أَنَس بن مَالِكٍ، الذي بيّن أن الشهيد يتميز عن أهل الجنة بحبه الرجوع إلى الدُّنْيَا، لَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى، مشيرة إلى الآراء الواردة في سبب تسمية الشهيد، وأن هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة، وجاء في الصحيحين أن الشهيد يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، ومن فضل الشهداء والجرحى الذين أصيبوا في الدنيا وكرامتهم، أنهم يأتون يوم القيامة بجراح تنزف دماً له لون الدم، وريحه ريح مسك.
وعد الشهيد بالأجر أو الغنيمة أو دخول الجنة
مقدمة حديث أبي هريرة أعلاه بينها وبين خاتمته صلة وثيقة، ففي المقدمة بيان لوعد الله للذي يخرج في سبيل الله بدافع خالص من الإيمان بالله وتصديق رسله، عليهم السلام، بأن الله سيرجعه بالأجر أو الغنيمة، أو يدخله الجنة، جاء في مرقاة المفاتيح، أن معنى انتدب هنا ضمن، وقوله: (لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ) أي الجهاد، (لاَ يُخْرِجُهُ) أي حال كونه لا يكون باعث خروجه إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، وفي جمع الرسل إشارة إلى أن تصديق واحد تصديق للكل، أو إيماء إلى تعظيمه، فإنه قام مقام الكل. (أَنْ أُرْجِعَهُ) أي بضم همزة وكسر جيم، أي أرده (بِمَا نَالَ) أي أدرك (مِنْ أَجْرٍ) أي فقط إن لم يغنم شيئاً (أَوْ غَنِيمَةٍ) أي معها أجر، فأو للتنويع، وكذا في قوله: (أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ) عطفاً على أرجعه، أي دخولاً أوّلياً، وفي النهاية (انتدب الله) أي أجابه إلى غفرانه، يقال: ندبته فانتدب، أي بغيته ودعوته فأجاب، وقال التوربشتي: وفي بعض طرقه (تضمن الله) وفي بعضها (تكفل الله)، وكلاهما أشبه بنسق الكلام من قوله: (انْتَدَبَ اللَّهُ) وكل ذلك صحاح.
وقوله: (بما نال) على لفظ الماضي، وارد على تحقق وعد الله تعالى وحصوله، قال التوربشتي: يروي (أو غنيمة) وهو لفظ الكتاب، ويروي بالواو، وهو أوجه الروايتين وأسدهما معنى، وفي هذا بحث، إذ يلزم أن لا يرجع المجاهد إلا بالجمع بين الأجر والغنيمة، وهي قد تحصل، وقد لا تحصل، فالرواية (بأو) هي الأصل والأولى، وتحمل الواو على معناها، ليتم المعنى على المبنى. قال الطيبي: (أو) بمعنى الواو ورد في التنزيل، منه قوله تعالى: {عذراً أو نذراً}(المرسلات: 6) ولا مانع من ورود أو بمعنى الواو. (مرقاة المفاتيح: 7/324-325)

الرفق بالضعفاء الذين لا يملكون الإمكانات اللازمة للخروج
الأحاديث المشيرة لحرص الرسول، صلى الله عليه وسلم، على المشاركة في حملات الجهاد جميعها، وتمنيه الشهادة في سبيل الله لفضلها، تضمن عدد منها تعليلاً واحداً مَنع من تحقيق هذه الرغبة، تمثل في الرفق بالذين يحرجون عن التخلف عنه، ويفتقرون إلى الإمكانات التي تلزم لمشاركتهم، كما هو مبين في الحديث أعلاه، وأحاديث أخرى، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ، مَا تَخَلَّفْتُ...). (صحيح البخاري، كتاب التمني، باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة)
فنفوسهم لا تطيب بالتخلف، ولا يقدرون على التأهب؛ لعجزهم عن آلة السفر؛ من مركوب وغيره، ويشق عليهم تحمل تعذر وجوده صلى الله عليه وسلم، معهم. (عمدة القاري: 14/95)
جاء في شرح الزرقاني ما مفاده، أنه صلى الله عليه وسلم، أورد هذه عقب تلك، إرادة لتسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، فكأنه قال: الوجه الذي تسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أن أقتل مرات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل، يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع، وقد خرج في بعض المغازي، وخلف عنه المشار إليهم، وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم، وفيه بيان شدة شفقته على أمته ورأفته بهم، والحض على حسن النية، وجواز ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح، أو لدفع مفسدة، والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين. (شرح الزرقاني: 3/58)
بَلْ أَحْيَاء
الشهداء في سبيل الله ميزهم الله بالنهي عن إلحاقهم بمصاف الأموات؛ لأنهم وفق بيانه سبحانه أحياء عند ربهم يرزقون، مصداقاً لقوله عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (البقرة: 154) يبين الرازي أن قول أكثر المفسرين في الآية أن الشهداء في الوقت أحياء، كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم، وهم في القبور. فإن قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟ يبين الرازي أن البنية ليست شرطاً في الحياة، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة، من غير حاجة إلى التركيب والتأليف. (التفسير الكبير: 4/132- 133)
وقد جاء في الحديث الصحيح عن مَسْرُوقٍ، قال: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ _ هو ابن مسعود _ عن هذه الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا). (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون)
ويقول صاحب التسهيل لعلوم التنزيل: حال الشهداء حال الأحياء من التمتع بأرزاق الجنة، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين، فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة يوم القيامة. (التسهيل لعلوم التنزيل: 1/124)

سائلين الله العلي القدير أن يرزقنا الشهادة الصادقة المخلصة لوجهه الكريم، وأن يحشرنا يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وبهذه الإطلالة الدالة على فضل الشهادة في سبيل الله، نختم في هذه المرحلة الوقوف عند أبعاد هذه القضية ومحاورها في ضوء الهدي القرآني، وسنة النبي الهادي محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
1 جمادى الأولى 1444هـ

تاريخ النشر 2022-11-25
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس