عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلاَثًا، أَشْهَدُ بِاللَّهِ). (صحيح البخاري، كتاب التمني، باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة)
صنف الإمام البخاري في صحيحه هذا الحديث الشريف في صدارة كتاب التمني، وضمن باب ما جاء في التمني، ومن تمنى الشهادة.
وورد هذا التمني في سياق حديث شريف بيّن فيه عليه الصلاة والسلام فضل الجهاد في سبيل الله، ففي صحيح البخاري، تحت بَاب تَمَنِّي الشَّهَادَةِ أخبر سَعِيدُ بن الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة)
وفي صحيح مسلم تحت بَاب: فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ في سَبِيلِ اللَّهِ، جاء عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ مِسْكٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ أَبَدًا، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ). (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله)
فهذه الروايات الصحيحة تجمع على إثبات رغبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالغزو في سبيل الله، وتمنّيه لو يتكرر له أن يقتل في سبيل الله، ثم العودة للحياة، بعد كل إحياء ليعاود القتال في سبيل الله، ونيل الشهادة.
مفهوم التمني
يبين ابن حجر العسقلاني أن التمني تفعل من الأمنية، والجمع أماني، والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد، فهي مطلوبة، وإلا فهي مذمومة، وقد قيل أن بين التمني والترجي عموماً وخصوصاً، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل التمني يتعلق بما فات، وعبر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله، وقال الراغب: قد يتضمن التمني معنى الود؛ لأنه يتمنى حصول ما يود.
وقوله: (لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا) ووقع في الطريق الثانية: (وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ) وهي أبين، ووقع في رواية الكشميهني: لأقاتل بزيادة لام التأكيد، ووددت من الودادة، وهي إرادة وقوع الشيء على وجه مخصوص يراد، وقال الراغب الود محبة الشيء، وتمني حصوله، فمن الأول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...} (الشورى: 23)، ومن الثاني: { وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...} (آل عمران: 69). (فتح الباري: 13/217)
ملحوظات حول متن الحديث أعلاه
جاء في شرح الزرقاني، أن الطيبي قال: (ثم) وإن دلت على تراخي الزمان، لكن الحمل على تراخي الرتبة هو الوجه؛ لأن التمني حصول درجات بعد القتل، والإحياء لم يحصل قبل، ومن ثم كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة، إلى أن ينتهي إلى الفردوس الأعلى.
وعبارة: (فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلاَثًا، أَشْهَدُ بِاللَّهِ) أنه قال ذلك، وفائدة التأكيد لتطمئن نفس سامعه إليه، ولا يشك فيما حدثه به، وهذا من كلام الراوي. (شرح الزرقاني: 3/44)
قال النووي: فيه فضيلة الغزو والشهادة، وفيه تمني الشهادة والخير، وتمني ما لا يمكن في العادة من الخيرات، وفيه أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين. (صحيح مسلم بشرح النووي: 13/22)
في الفردوس الأعلى
الأخبار والأحاديث الدالة على فضل الشهداء ومنازلهم في الآخرة كثيرة، منها بشارة النبي، صلى الله عليه وسلم، لأم حارثة بشأن مصير ابنها الشهيد حارثة، فعن أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ لَهَا: «هَبِلْتِ، أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى وَقَالَ: غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ، أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنَ الجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الخِمَارَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا). (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار)
فهذه إطلالة دالة على فضل الشهادة في سبيل الله، راجين التوفيق في متابعة الحديث عن المزيد من أبعاد ومحاور هذه القضية في ضوء الهدي القرآني، وسنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
17 ربيع الآخر 1444هـ