عن أَنَسَ بن مَالِكٍ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحور العين وصفتهن يحار فيها الطرف شديدة سواد العين شديدة بياض العين)
وقفت الحلقة السابقة عند الحديث الشريف الذي تمنى فيه الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، الشهادة في سبيل الله، وورد هذا التمني في سياق بيان فضل الجهاد في سبيل الله، الذي تضمنته روايات صحيحة أجمعت على إثبات رغبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالغزو في سبيل الله، وتمنيه لو يتكرر له أن يقتل في سبيل الله، ثم العودة للحياة، ليعاود القتال في سبيل الله، ونيل الشهادة. وبين ابن حجر العسقلاني أن التمني تفعل من الأمنية، والجمع أماني، والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد، فهي مطلوبة، وإلا فهي مذمومة، وقيل أن بين التمني والترجي عموماً وخصوصاً، فالترجي في الممكن، والتمني في أعم من ذلك، وقيل التمني يتعلق بما فات، وعبر عنه بعضهم بطلب ما لا يمكن حصوله، وقال الراغب: قد يتضمن التمني معنى الود؛ لأنه يتمنى حصول ما يود.
وعن هذا الحديث قال النووي: فيه فضيلة الغزو والشهادة، وفيه تمني الشهادة والخير، وتمني ما لا يمكن في العادة من الخيرات، وفيه أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، ومن فضل الشهادة المنزلة التي نالها الشهيد حارثة، الذي بشر النبي، صلى الله عليه وسلم، أمه، بأنه في الْفِرْدَوْسِ الأعلى، وقال: (غَدْوَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ أو رَوْحَةٌ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها).
نظرة في لغة الحديث وتسمية الشهيد
جاء في عمدة القاري، أن قوله: (يموت) جملة وقعت صفة لعبد، وكذلك قوله: (له عند الله خير) صفة أخرى، وقوله: (خير) أي ثواب، وقوله: (يسره) جملة وقعت صفة لقوله: (خير) وقوله: (وأن له الدنيا) عطف على أن يرجع، وقوله: (إلاَّ الشهيد) مستثنىً من قوله: (يسره أن يرجع) وقوله: (لِما يرى) بكسر اللام التعليلية، وقوله: (فيقتل) على صيغة المجهول بالنصب، عطفاً على (أن يرجع). (عمدة القاري: 14/94)
وبالنسبة لتسمية الشهيد، قال النووي: اختلف في سبب تسميته شهيداً، فقال النضر بن شميل: لأنه حي، فأرواح الشهداء شهدت وحضرت دار السلام، وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة.
وقال ابن الأنباري: إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة.
وقيل: لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى من الثواب والكرامة.
وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه، فيأخذون روحه، وقيل: لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالة إليهم، وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف.
قال ابن بطال: هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة، قال: وليس في أعمال البر ما تبذل فيه النفس غير الجهاد؛ فلذلك عظم فيه الثواب. (تحفة الأحوذي: 5/ 248- 249)
فضل الشهادة وحب الشهيد العودة إلى الدنيا ليقتل
جاء في الصحيحين أن الشهيد يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، فعن أَنَسَ بن مَالِكٍ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا)
ففي هذه الرواية وعند مسلم في رواية يحب الشهيد الرجوع إلى الدنيا ويقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة، أي لأجل ما يراه من الكرامة؛ للشهداء. (عمدة القاري: 14/114)
وفي رواية لمسلم، لما يرى من فضل الشهادة، فعن أَنَسِ بن مَالِكٍ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلَّا الشَّهِيدُ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ). (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى)
وفيه إيماء إلى أنه لا يتمنى شيئاً من شهوات الدنيا إلا الشهادة، وهي ليست منها. (مرقاة المفاتيح:7/336)
ومن فضل وكرامة الشهداء والجرحى الذين أصيبوا في الدنيا، أنهم يأتون يوم القيامة بجراح تنزف دماً له لون الدم، وريحه ريح مسك، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ). (صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك)
جاء في عمدة القاري، أن قوله: (يكلم) على صيغة المجهول، أي يجرح، من الكلم بالفتح، وهو الجرح، وقوله: (وَكَلْمُهُ) بفتح الكاف وسكون اللام، أي جرحه، (يَدْمَى) بفتح الياء وسكون الدال، وفتح الميم، من دمى يدمى، من باب علم يعلم، أي يسيل منه الدم، وقوله: (اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ) تشبيه بليغ بحذف أداة التشبيه، وكذلك (وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ). (عمدة القاري: 21/135)
فهذه إطلالة أخرى دالة على فضل الشهادة في سبيل الله، راجين التوفيق في متابعة الحديث عن مزيد من أبعاد ومحاور هذه القضية في ضوء الهدي القرآني، وسنة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
24 ربيع الآخر 144هـ