عن سُفْيَانَ بن عبد اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ - قَالَ: " قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ)(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام)
ينتهز الصحابي سفيان بن عبد الله الثقفي فرصة ذهبية ليسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن قول في الإسلام يفيده ويغنيه عن السؤال بالخصوص بعد ذلك، فيجيبه عليه الصلاة والسلام، بأن يؤمن بالله ويستقم.
السؤال عن المفيد يختلف عما سواه
يتكلف بعض الناس في طرح أسئلة عن أمور لا فائدة مرجوة من تحصيل إجابتها، وبخاصة تلك المتعلقة بأمور غيبية يستحيل التأكد من معطياتها إلا عن طريق الأخبار اليقينية، وورد النهي عن السؤال المتكلف، ففي صحيح البخاري، بَاب ما يُكْرَهُ من كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَتَكَلُّفِ ما لَا يَعْنِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}(المائدة: 101) وفيه عن عَامِرِ بن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ، عن أبيه أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ)(صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه)
وفي الحديث الصحيح عن أَنَسٍ، رضي الله عنه: (سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَحْفَوْهُ المَسْأَلَةَ، فَغَضِبَ فَصَعِدَ المِنْبَرَ، فَقَالَ: لاَ تَسْأَلُونِي اليَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لاَحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: حُذَافَةُ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَسُولًا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْتُ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ كَاليَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الجَنَّةُ وَالنَّارُ، حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الحَائِطِ) وَكَانَ قَتَادَةُ، يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الحَدِيثِ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة: 101])(صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب التعوذ من الفتن)
وعن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قال: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ المَسْأَلَةَ غَضِبَ، وَقَالَ: سَلُونِي، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الغَضَبِ، قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه)
والرسول، صلى الله عليه وسلم، كره لنا كثرة السؤال، فعن وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ، قال: (كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ)(صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه)
فالسؤال المتكلف مذموم، بخلاف السؤال عن النافع والمفيد، وسؤال الصحابي سفيان الثقفي المثبت في نص الحديث الشريف أعلاه، كان عن نافع ومفيد، فسأل عن إرشاد لأمر يغني في العمل والخير والسلامة للعمل بمقتضاه، والنجاة بذلك من العقاب، ونيل الثواب.
وفي رواية أخرى أجابه صلى الله عليه وسلم عن سؤاله بالمضمون نفسه، لكن مع اختلاف قليل في الصياغة، فقال له: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ)(مسند أحمد، مسند المكيين، حديث سفيان بن عبد الله الثقفي، قال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين)
حديث من جوامع الكلم
الحديث أعلاه من جوامع الكلم الذي بعث به النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وتميز به، قال القاضي عياض، رحمه الله، عن هذا الحديث الشريف: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.(صحيح مسلم بشرح النووي:2/9)
وفي الحديث الصحيح عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الكَلِمِ: أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الأُمُورَ الكَثِيرَةَ، الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الكُتُبِ قَبْلَهُ، فِي الأَمْرِ الوَاحِدِ، وَالأَمْرَيْنِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ)(صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد)
وفي رواية عند مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قال: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)(صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة)
وفي رواية صحيحة أخرى عبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن جوامع الكلم الذي أوتيه بلفظ (مفاتيح) بدل (جوامع)، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم (أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الكَلِمِ...)(صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب رؤيا الليل)
ويبين الإمام العيني أن مفاتيح الكلم أي لفظ قليل يفيد معاني كثيرة، وهذا غاية البلاغة.(عمدة القاري:24/142)
آملين متابعة الوقوف عند مزيد من دلالات حديث سفيان بن عبد الله الثقفي المثبت نصه أعلاه، والمتضمن سؤاله والإجابة عنه، حسب الثابت في الحديث عن رسول الله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
16 صفر 1445هـ