.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

ربط الفوز والنجاة بمطلبين - الحلقة الثانية والأخيرة

==========================================================

يأمر الله في قرآنه الكريم نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين معه بالاستقامة، فيقول عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112)
وقفت الحلقة السابقة عند استنتاج مفيد من حديث سُفْيَان بن عبد اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، الذي سأل فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن قول في الإسلام لا يسأل أحداً بعده أو غيره، ويتعلق الاستنتاج بمسألة أن السؤال عن المفيد يختلف عما سواه، مع الاستدلال على النهي عن السؤال المتكلف الذي لا ترجى فائدة عملية من إثارته ومعرفة الإجابة عنه، بخلاف السؤال عما ينفع في الدنيا والآخرة، كسؤال الصحابي سفيان الثقفي الذي كان عن نافع ومفيد، فسأل عن إرشاد لأمر يغني في العمل والخير والسلامة للعمل بمقتضاه، والنجاة بذلك من العقاب، ونيل الثواب، وقد أجاب النبي، صلى الله عليه وسلم، عن سؤاله بأقل الألفاظ، وفق ما تميز به عليه الصلاة والسلام، من خاصية جوامع الكلم، حيث كان يجمع الأُمور الكثيرة في الأَمْر الواحد والْأَمريْن أو نحو ذلك، وكان يعبر بألفاظ قليلة عن معان كثيرة، وهذا غاية البلاغة، وجوابه لسفيان كان من هذا القبيل، إذ قال له: (قل آمنت بالله فاستقم) وفي رواية (ثم استقم) فعبّر عليه الصلاة والسلام بلفظين عن مطلبين للنجاة والفوز، من خلال أمره بالإيمان والاستقامة.
الإيمان أولاً
المطلب الأول لقبول الأعمال والإثابة عليها يتمثل بالإيمان، وهو عند كثير من العلماء قول وعمل، ويعرف بأنه ما وقر في القلب، ونطق به اللسان، وصدقه العمل، واقترن ذكر عمل الصالحات بالإيمان في كثير من الآيات القرآنية التي ذكرتهما، منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:82)، ويقول عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا} (الكهف:88)
والرسول، صلى الله عليه وسلم، لما ذكر شعب الإيمان بين أن أعلاها وأفضلها التوحيد، وأدناها أمر يتعلق بالسلوك، فقال عليه الصلاة والسلام: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أو بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الْإِيمَانِ) (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان)
الاستقامة
التزام صراط الله المستقيم، أمر اعتنى به الإسلام، فضمن طلبه في آيات فاتحة الكتاب، التي تتلى في كل ركعة من ركعات الصلاة، {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة:6) بالإضافة إلى تحديد المثال المحتذى في الاستقامة، وهو درب المنعم عليهم بالهداية والرشاد، مع الحرص على تجنب صراط المغضوب عليهم والضالين، لأنه يفضي إلى الخسران والوبال، فقال تعالى في سورة الفاتحة نفسها: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة:7)
وعلى هذا الغرار، تضمنت إجابة النبي، صلى الله عليه وسلم، عن سؤال سفيان الثقفي بطلب الإيمان والاستقامة منه ليحصل له الفوز والنجاة، والآية القرآنية المثبت نصها أعلاه من سورة هود، تضمنت أمراً ربانياً واضحاً للنبي، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين بالاستقامة على أمر الوحي والدين، ومعناه: استقم على دين ربك، والعمل به، والدعاء إليه، كما أمرت، ومن تاب معك؛ أي من آمن معك فليستقيموا. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي. (تفسير البغوي، 2/404)
وأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام، والثبوت وهو أمر لسائر الأمة.( تفسير الثعالبي، 2/220)
يقول الرازي: اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة؛ وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ، وجب اعتبار الترتيب فيها، لقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل، والبقر من البقر، وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به. (التفسير الكبير، 18/57)
النجاة والفوز بالإيمان والاستقامة
واضح أن سفيان الثقفي لما سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أمر في الإسلام يغنيه بعد معرفته عن السؤال بعد ذلك، أنه كان يقصد الحصول على نصيحة وتوجيه يكفيه للرشاد، والفوز برضوان الله، والبعد عن سخطه وغضبه سبحانه، فكانت الإجابة الشافية الواضحة، التي حددت مطلبين لتحقيق المراد من هذا السؤال، لُخصا في: (آمنت بالله، ثم استقم) وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن العارف البصير، حريصاً على النفع الدائم، والنجاة الحقة، ليكون من الذين أثنى الله عليهم، وقال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} (الكهف:107-108)
وشتان بين مَن هذا حالهم، وبين حال الذين ضل سعيهم في حياتهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ممن قال الله تعالى في أمثالهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً* أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً* ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} (الكهف: 103-106) فسؤال سفيان الثقفي، رضي الله عنه، كان عن أمر عظيم، بدليل الإجابة التي تلقاها عنه من الرسول، صلى الله عليه وسلم، والتي أرشدت إلى منهاج قويم للنجاة من الآثام والخطايا، والمصير الذي يؤديان إليه، والمنهاج القويم المتمثل بالإيمان والاستقامة يفضي كذلك إلى الفوز بالمثوبة المفضية لنيل جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يعيننا على حسن خشيته، لننال رضاه سبحانه، وحب نبيه الأكرم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
23 صفر 1445هـ

تاريخ النشر 2023-09-08
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس