.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

ضحى بكبشين أملحين

==========================================================

عن أَنَسٍ، قال: (وَنَحَرَ النبي، صلى الله عليه وسلم، بيده سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ)(صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من نحر هديه بيده)
يحل علينا عيد الأضحى المبارك، الذي تقدم فيه الأضاحي قربات لله؛ تأسياً بسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، حيث ضحّى بكبشين أملحين أقرنين، ومعنى أملحين: تثنية أملح، وهو الأبيض يخالطه أدنى سواد، وقوله أقرنين: تثنية أقرن، وهو الكبير القرن. (عمدة القاري، 10/50)

الأضحية تخلد ذكرى الفداء بذبح عظيم
يتجلى في الأضحية تخليد ذكرى الفداء الرباني لابن إبراهيم، عليهما السلام، بعد استسلامهما لأمر الله، وتقبلهما تنفيذه من منطلق الطاعة المطلقة لله، فإبراهيم، عليه السلام، رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ولم يتردد في إبلاغ الأمر له، فما كان منه إلا أن عبر عن تقيد مطلق به، دون تردد، مما يدل على عمق الإيمان الراسخ في قلبي الولد ووالده، والذي عبرا عنه في هذا الموقف العصيب، وقد سجلت سورة الصافات حيثيات هذا الموقف بوضوح وجلاء، حيث يقول عز وجل: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات: 101-107)
وبهذه المناسبة المباركة يحسن الوقوف عند بعض متعلقات الأضحية وأحكامها، للعلم بها، والعمل بمقتضاها، ومن أبرزها:
معنى الأضحية وحكمها
الأضحية، هي: ما يذبح أو ينحر يوم الأضحى، وأيام التشريق الثلاثة التي تليه من بهيمة الأنعام - إبل، بقر، غنم- تقرباً لله عز وجل، بصفة مخصوصة وشروط بينة.
وقد اختلف الفقهاء في حكمها، فهي سنة مؤكدة عند جمهورهم، وواجبة عند أبي حنيفة، وفي قول لأحمد، وأدلة الجمهور أقوى، وأبرزها أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الحِجَّةِ، وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ)(صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه ذي الحجة...)
فقوله: (وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ) دليل على أنها لا تجب.(كشف المشكل، 4/425)
ومن أبرز أدلة القائلين بالوجوب، قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له سَعَةٌ، ولم يُضَحِّ فلا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا) (سنن ابن ماجة، كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا، وحسنه الألباني)، فرأوا أن مثل هذا الوعيد، لا يلحق بترك غير الواجب.(عمدة القاري، 21/144)
وفي تحفة الأحوذي، أن هذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب قاله الحافظ.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 2)، والأمر للوجوب، وأجيب بأن المراد تخصيص الرب بالنحر له لا للأصنام، فالأمر متوجه إلى ذلك؛ لأنه القيد الذي يتوجه إليه الكلام، ولا شك في وجوب تخصيص الله بالصلاة والنحر. (تحفة الأحوذي، 5/79) والذي يبدو أن الأقرب للصواب هو القول إنها سنة مؤكدة، مرغب فيها، ويثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها، لكن يحبذ للقادر على التضحية أن يبادر لذلك؛ طلباً للمثوبة، ومحافظة على هذه الشعيرة المباركة.

وقت ذبح الأضحية
يبدأ وقت الذبح المشروع للأضاحي من بعد الانتهاء من صلاة العيد، فالله سبحانه رتب القيام بالنحر عقب أداء الصلاة، فقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2)
ولا يجوز الشروع بذبح الأضحية قبل الانتهاء من صلاة العيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوَّلَ ما نَبْدَأُ بِهِ في يَوْمِنَا هذا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ، فَنَنْحَرَ من فَعَلَهُ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هو لَحْمٌ، قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ليس من النُّسُكِ في شَيْءٍ)(صحيح البخاري، كتاب الأضاحي، باب سنة الأضحية)
ويمتد وقته حتى غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق؛ أي الرابع من أيام العيد.

شروط الأضحية وفضلها
يشترط في الأضحية أن تبلغ السن المحدد لها في الشرع، بأن تبلغ الشاة عاماً، وتدخل في الثاني، ويجوز في الضأن الذي ينهي الشهر السادس، ويدخل في السابع، وأن تبلغ البقرة السنة الثانية، وتدخل في الثالثة، أما الإبل، فينبغي أن تنهي
السنة الخامسة، وتدخل في السادسة، لقوله، صلى الله عليه وسلم: (لَا تَذْبَحُوا إلا مُسِنَّةً، إلا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً من الضَّأْنِ)(صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، باب سن الأضحية)
وقد أجاز مجلس الإفتاء الأعلى في فلسطين التضحية بالعجول المسمنة، ولو لم تبلغ السنتين من العمر، تيسيراً على المضحي لندرة توفر أضاحي من هذا الصنف بهذا العمر، ومراعاة لمصلحة المستفيد من لحم الأضحية، بتوفير لحم جيد ووافر.
ويشترط في الأضحية كذلك أن تكون سليمة من العيوب، فلا تقبل العرجاء، ولا العوراء، ولا العمياء، ولا الهزيلة المريضة، وينبغي أن يطيب المضحي بها نفساً، فيختار الحسنة الجميلة السمينة، ففضلها عظيم، وأجرها كبير.

توزيع لحم الأضحية والأكل منه
بذبح الأضحية أو نحرها يتحقق المطلوب الرئيس، وبالنسبة إلى لحمها، فليس للتصرف فيه شرط مقيد، سوى أن لا يباع منه شيء، ولا يعطى للجزار منه أو من متعلقات الأضحية شيء على سبيل الأجرة، فعن عَلِي، رضي الله عنه: (أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ على بُدْنِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا، وَجُلُودَهَا، وَجِلَالَهَا، ولا يُعْطِيَ في جِزَارَتِهَا شيئاً)(صحيح البخاري، كتاب الحج، باب يتصدق بجلود الهدي)
ويمكن للمضحي أن يوزع الأضحية كلها على الفقراء والأصدقاء والأقارب، ولا يشترط الفقر فيمن يأخذ منها، ويمكن الانتفاع منها كلها للمضحي وأهل بيته، ويمكن لتحصيل فضل أكثر، الجمع بين التصدق والإهداء والأكل، عملاً بهديه جل في علاه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج:28)
فهذه وقفات عند بعض متعلقات الأضحية وأحكامها، عسى التذكير بها أن يفيد، فالذكرى تنفع المؤمنين، راجين الله العلي القدير أن يبارك لنا وللمسلمين في أنحاء المعمورة بعيد الأضحى المبارك، وفي أيامنا كلها، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، ويغفر لنا سيئها، وأن يهدينا للعمل بكتابه، وسنة نبيه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
3 ذو الحجة 1446هـ

تاريخ النشر 2025-05-30
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس