تلقى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، نهياً من الله تعالى عن التعجل بحفظ ما يوحى إليه من القرآن الكريم، فخاطبه سبحانه بقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة:16)
وقفت الحلقة السابقة عند ذم استعجال إجابة الدعاء، فالرسول، صلى الله عليه ويسلم، يقول: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: «قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ»(صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي)
فإِجَابَةَ الدعاء تكون عَلَى أَنْوَاعٍ، مِنْهَا: تَحْصِيلُ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهَا: وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ، وَمِنْهَا: دَفْعُ شَرٍّ بَدَلَهُ، أَوْ إِعْطَاءُ خَيْرٍ آخَرَ خَيْرٍ مِنْ مَطْلُوبِهِ. وَمِنْهَا: ادِّخَارُهُ لِيَوْمٍ يَكُونُ أَحْوَجَ إِلَى ثَوَابِهِ،
ومعنى "فَيَسْتَحْسِرُ": أَيْ: يَنْقَطِعُ وَيَمِيلُ وَيَفْتُرُ، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ عَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْحَالَةِ "وَيَدَعُ الدُّعَاءَ": أَيْ: يَتْرُكُهُ مُطْلَقًا، أَوْ ذَلِكَ الدُّعَاءَ.
والسياق الذي ورد فيه ذكر الاستعجال في القرآن الكريم والسنة النبوية غالباً ما كان في مجال الذم، ووصف الله شريحة من الناس بأنهم يحبون العاجلة، وهي الدُّنيا، وفي حب العاجلة وجهان: أحدهما: أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود. والثاني: طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون.
وفي قوله: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ)(القيامة: 20)، إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان: أن العظام لا تجمع، وأن البعث ليس بشيء - حبهم العاجلة، وذلك أنهم أولعوا بها، وأحبوها حباً أنساهم الإيمان بالآخرة، أو النظر في الحجج والبراهين، التي لو أمعنوا النظر فيها لأدلتهم إلى القول بالبعث.
والدعاء عبادة يحبها الله، لكن نتائجها ينبغي أن تترك له سبحانه وحده، وفي كثير من الآيات القرآنية تعقيباً على مواقف مختلفة تم التأكيد على أن تسيير الأمور تتم بقدر الله، الذي قد يختلف مع توجهات العباد.
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
النهي الرباني الذي تلقاه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، عن التعجل بحفظ ما يوحى إليه من القرآن الكريم، حسب ما جاء في قوله عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة:16)، يمثل صورة من صور النهي عن الاستعجال لاستجلاب البر والمصالح، كذم الاستعجال في استجابة الدعاء، فالله ينهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن الاستعجال في تلقي القرآن من جبريل، عليه السلام، فالله عليه جمعه في قلب النبي، صلى الله عليه وسلم، وحفظه، وكذلك تيسير قراءته على لسانه، {فَإذا قَرَأْناهُ} (القيامة: 18)، أي: جمعناه في قلبك وحفظك، فاتبع بإقرائك جمعه، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ}(القيامة: 19) نبيّن لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستعجل في التلقف مخافة النسيان، فنُهيَ عن ذلك، وضمن الله له التيسير والتسهيل. (لطائف الإشارات= تفسير القشيري، 3 /656)
وحَدَّثَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16)، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (القيامة: 17)، قَالَ جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18)، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَرَأَهُ. (صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم)
النهي عن التعجل بالقرآن الكريم
على غرار النهي الرباني للنبي، صلى الله عليه وسلم، عن تحرِيك لسانه بالقرآن لِيعْجَلَ بِهِ، نهاه سبحانه عن التعجل بالقرآن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إليه وحيه، فقال عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114)، يبين السعدي عند تفسير هذه الآية الكريمة؛ أي: لا تبادر بتلقف القرآن حين يتلوه عليك جبريل، واصبر حتى يفرغ منه، فإذا فرغ منه فاقرأه، فإن الله قد ضمن لك جمعه في صدرك، وقراءتك إياه، كما قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ...} (القيامة: 16)، ولما كانت عجلته، صلى الله عليه وسلم، على تلقف الوحي، ومبادرته إليه، تدل على محبته التامة للعلم، وحرصه عليه، أمره الله تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة الأدب في تلقي العلم، وأن المستمع للعلم ينبغي له أن يتأنى ويصبر حتى يفرغ المملي والمعلم من كلامه المتصل بعضه ببعض، فإذا فرغ منه سأل إن كان عنده سؤال، ولا يبادر بالسؤال وقطع كلام ملقي العلم، فإنه سبب للحرمان، وكذلك المسؤول ينبغي له أن يستملي سؤال السائل، ويعرف المقصود منه قبل الجواب، فإن ذلك سبب لإصابة الصواب. (تفسير السعدي، 1 /514)
ويبين صاحب أضواء البيان أن فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه: 114) إِيمَاء إِلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءُ عِنْدَ الْإِيحَاءِ بِهِ، كَمَا فِي آدَابِ الِاسْتِمَاعِ، المشار إلى جانب منه في قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 8 /374)
الثناء على الأناة وفضلها
يقابل النهي عن الاستعجال الثناء على الأناة، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ" (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين والدعاء إليه)
يبين النووي أن الحلم هو العقل، والأناة هي التثبت، وترك العجلة. (صحيح مسلم بشرح النووي، 1 /189)
ويستخدم مصطلح: "عَلَى رِسْلِكَ" للحث على التروي، وترك الاستعجال، فأبو بكر الصديق لما أراد الهجرة قبل أن يؤذن للنبي، صلى الله عليه وسلم، بها، قال له: (عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). (صحيح البخاري، كتاب الكفالة، باب جواز أبي بكر في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وعقده)
ومعنى "عَلَى رِسْلِكَ": أَيْ عَلَى مَهْلك، وَالرِّسْل السَّيْر الرَّفِيق. (فتح الباري، 11 /236)
وفي المثل الدارج والمشهور: (في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة).
والشاعر يقول: لا تـعـجـلن لأمـر أنت طـالـبــه فقلما يدرك المطلوبَ ذو العجل
فذو التأني مُصيب في مقاصـده وذو التعجل لا يخـلو عن الزلل
ومن المجالات التي يحمد فيها التأني، القدوم للصلاة والمشي لها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا). (صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار)
ومن دواعي الأمر بالسكينة في السعي إلى الصلاة، للتمكن من ترتيل القرآن، والمحافظة على الوقار اللازم للخشوع. ويحمل هذا على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة، كما تلزم من كان في سعة من الوقت، والله أعلم. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 2 /261، بتصرف)
يبين العيني أنه إنما ذكر الإقامة تنبيهاً على ما سواها؛ لأنه إذا نهي عن إتيانها مسرعاً في حال الإقامة مع خوف فوت بعضها، فقبل الإقامة أولى، ويقال الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد انبهر، فيقرأ في تلك الحالة، فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح.
والحكمة في منع الإسراع أنه ينافي الخشوع وتركه أيضاً يستلزم كثرة الخُطى وهو أمر مندوب مطلوب، وردت فيه أحاديث منها حديث مسلم رواه عن جابر إن بكل خطوة درجة. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 8 /208)
سائلين الله العلي القدير أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من محاور وأبعاد عبارة: «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»(صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام) في الشكوى والدعاء وطلب النصر والفرج وغير ذلك من المواقف والأحوال، بعد هذه المتابعة هنا لمسألة تتعلق بالحث على الأناة، والنهي الرباني عن التعجل بالقرآن وتحريك اللسان به، حسب ما جاء في آيات التنزيل المنزلة على خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
22 ربيع الآخر 1446هـ