عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)(صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان)
وقفت الحلقة السابقة عند خطاب الله الموجه لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، في الآيات 70-72 من سورة النمل، المتضمن قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي: قرب منكم وأوشك أن يقع بكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب، والتعبير هنا بالمضارع للدلالة على تجدد ذلك القول منهم، أي لم يزالوا يقولون، والمراد بالوعد ما أنذروا به من العقاب، و{رَدِفَ} تبع بقرب، والمعنى: رجاء أن يكون ذلك قريب الزمن، وإضافة إلى الإخبار الرباني التذكيري عن قرب وقوع العذاب المستعجل به بمستعجليه؛ فإن آيات قرآنية عديدة أشارت بطريقة أو بأخرى إلى وقوع العذاب المستعجل به بالمستعجلين، لكن في الأوقات والظروف والأوصاف التي يريدها الله جل شأنه، والْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَإِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ آمَنُوا، ولا ينفعهم الإيمان وقتئذ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
ومن الأمثلة القرآنية التي أشير فيها إلى قضية العجلة والاستعجال، ما كان في قصة موسى مع قومه، حيث قال لهم عليه السلام: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}(الأعراف:105) أي: أستعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدَّر من الله تعالى؟ وتعرضت سورة طه لذكر هذا الجانب من قصة موسى، وفيها ذكر لسؤال له علاقة بالاستعجال وجهه الله إلى موسى، عليه السلام، فقال عز وجل: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}(طه: 83-84) وبرر عليه السلام، استعجاله عن قومه، طلباً لقرب الله، ومسارعة في رضاه سبحانه، وشوقاً إليه.
وبعد عرض قضايا وموضوعات تتعلق بالاستعجال المذموم، أو غير المرغوب فيه، قد يكون من النافع والمفيد الوقوف عند أنواع من الاستعجال الإيجابي والمحمود، الذي يُرغب الشرع به، ومنه:
الاستباق إلى التهجير
من أنواع الاستعجال المحمود الاستباق إلى التهجير، المشار إليه في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه.
يبين ابن بطال أن التهجير: هو السير في الهاجرة، وهي شدة الحر، ويدخل في معنى التهجير المسارعة إلى الصلوات كلها قبل دخول أوقاتها؛ ليحصل لمن يفعل ذلك فضل الانتظار قبل الصلاة. (شرح صحيح البخاري لابن بطال:2/280)
قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة: الْمُرَاد بِالِاسْتِبَاقِ مَعْنًى لَا حِسًّا؛ لِأَنَّ الْمُسَابَقَة عَلَى الْأَقْدَام حِسًّا تَقْتَضِي السُّرْعَة فِي الْمَشْيِ، وَهُوَ مَمْنُوع مِنْهُ.(فتح الباري:2/418)
وقال: المراد من الاستباق التبكير، بأن يسبق غيره في الحضور إلى الصلاة.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:8/133)
فالاستعجال هنا بالاستباق والمسارعة للصلاة أمر محمود ومرغب به، وله فضله وأجره.
المسارعة إلى المغفرة والجنة
أمر الله بالمسارعة إلى الخير، فقال عز وجل: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(آل عمران:133)
يبين محمد الطاهر بن عاشور أن المسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات.
وجيء بصيغة المفاعلة، مجرد عن المعنى حصول الفعل من جانبين، قصد المبالغة في طلب الإسراع، والعرب تأتي بما يدل على الوضع على تكرر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير، ونظيره التثنية في قولهم: لبيك وسعديك، وقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}(الملك: 4).(التحرير والتنوير:3/220)
وأمر سبحانه بالسبق إلى المغفرة، فقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21)
قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته، وجنته جل وعلا، وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال. وصيغ الأمر في قوله: {وَسَارِعُوا} وقوله: {سَابِقُوا}، وقوله: {فَاسْتَبِقُوا}، تدل على الوجوب؛ لأن الصحيح المقرر في الأصول: أن صيغة "افعل"، إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب،(أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:4/333)
استباق الخيرات
أمر الله باستباق الخيرات، فقال جل شأنه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:148)
وأمر عز وجل باستباق الخيرات في سورة المائدة، فقال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(المائدة:48)، {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}: أي بادروا إلى الأعمال الصالحات، واستدل بهذا قوم على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها.(التسهيل لعلوم التنزيل: 1/116+316)
ويبين محمد الطاهر بن عاشور أن الاستباق: هو التسابق، وهو هنا مجاز في المنافسة، لأن الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر، فشابه التسابق.(التحرير والتنوير:5/126)
ويبين في موضع آخر أن الاستباق افتعال، والمراد به السبق، وعدي بنفسه، كقوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ}(يوسف:25) أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا، فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي، وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه، و{الخَيْرَاتِ} جمع خير على غير قياس، كما قالوا سرادقات وحمامات.
والمراد عموم الخيرات كلها، فإن المبادرة إلى الخير محمودة، ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات، وفجأة الفوات، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}(آل عمران:133) {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }(الواقعة:10-12)(التحرير والتنوير:2/43)
وهناك استباق الصراط الذي ذكره القرآن في قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} (يس:66)
ومعنى لطمسنا في قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنا} أي مسخنا {عَلى أَعْيُنِهِمْ} كما أغشينا قلوبهم الباطنة؛ بأن نجعلها كأنها غير مشقوقة، وهذا أبلغ من أعميناها أو أغشيناها، {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} بادروا طريقهم المألوف لهم، ويجوز أن يكون الكلام من باب الحذف والإيصال، بأن حذف الجار، وهو إلى، واتصل الفعل بالمجرور، وهو الأصل، فاستبقوا إلى الصراط {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} طريقهم، وهم عمي القلوب، عمي الأعين معاً.(بيان المعاني:1/362)
التوبة من قريب
التوبة تقتضي المبادرة إليها والمسارعة، فمقترف الذنب لا يدري هل يدرك التوبة، أو يفوته الأوان دون ذلك، لذا؛ فمن ميزات أهل الفطنة المسارعة إلى التوبة، وأن يتوبوا من قريب، وعنهم يقول جل شأنه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:17)
يبين الرازي أن المراد من القرب في قوله تعالى: {مِن قَرِيبٍ} حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه: أحدها: أن الأجل آت، وكل ما هو آت قريب. وثانيها: للتنبيه على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة، فإنها محفوفة بطرفي الأزل والأبد، فإذا قسمت مدة العمر إلى ما على طرفيها صار كالعدم. وثالثها: أن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب.(التفسير الكبير للرازي:1/1392)
أما السعدي فيقول بأنه يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعاً، وأما بعد حضور الموت؛ فلا يُقبل من العاصين توبة، ولا من الكفار رجوع.(تفسير السعدي:1/171)
الفرار إلى الله
أمر الله بالفرار إليه سبحانه، فقال عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الذاريات:50)
يبين ابن عاشور أن الفرار: هو الهروب، أي سرعة مفارقة المكان تجنباً لأذى يلحقه فيه، فيعدى بـ {من} الابتدائية للمكان الذي به الأذى، يقال: فر من بلد الوباء ومن الموت، والشيء الذي يؤذي، يقال: فر من الأسد، وفر من العدو.
وجملة {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} تعليل للأمر بـ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} باعتبار أن الغاية من الإنذار قصد السلامة من العقاب فصار الإنذار بهذا الاعتبار تعليلا للأمر بالفرار إلى الله، أي التوجه إليه وحده. (التحرير والتنوير:27/39)
فالمطلوب فرار من معاصي الله إلى طاعاته، فروا إليه بالتوبة الصادقة، والإيمان السليم، واقصدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولا تجعلوا معه إلهاً آخر، إني أنا رسول اللّه إليكم، ونذير مبين لكم بين يدي عذاب شديد.(التفسير الواضح:3/542)
ويبين أبو السعود في تفسيره، أن قوله تعالى: {إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى، أو لوجوب الامتثال به؛ فإن كونه، عليه الصلاة والسلام، منذراً منه تعالى موجب عليه، عليه الصلاة والسلام، أن يأمرهم بالفرار إليه، وعليهم أن يمتثلوا به؛ أي إني لكم من جهته تعالى منذر بين كونه منذراً أو مظهراً لما يجب إظهاره من العذاب المنذر به، وفي أمره تعالى للرسول، صلى الله عليه وسلم، بأن يأمرهم بالهرب إليه تعالى من عقابه، وتعليله بأنه، عليه الصلاة والسلام، ينذرهم من جهته تعالى لا من تلقاء نفسه، وعد كريم بنجاتهم من المهروب، وفوزهم بالمطلوب.(تفسير أبي السعود:8/143)
فهذه وقفة عند مجالات للاستعجال المحمود، التي كان الأمل أن نختم حلقات موضوع «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» بها، لكن الحاجة دعت إلى إعداد حلقة أخرى لاستعراض مزيد من المجالات الدالة على الاستعجال المحمود في ضوء الهدي القرآني، وما جاء في سنة نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
13 جمادى الأولى 1446هـ