عن الْمُغِيرَةِ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وقال، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ) (صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر)
حرم الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف هذا أموراً، وكره أخرى، ومما كرهه للمسلمين إضاعة المال، والمراد به السرف في إنفاقه، وعن سعيد بن جبير إنفاقه في الحرام. (فتح الباري، 5/68)، والأمران سيئان مذمومان.
النهي عن السرف
جاء في قاموس المعجم الوسيط، أن السَّرَف : الضراوة بالشيء والوَلُوعُ به، وهو مجاوزة الحدّ.
و سَرَف الماء: ما ذهب منه في غير شيء ولا نفع، يقال: ذهب هذا الماء سَرَفاً. (المعجم الوسيط، 1/427 )، وقد نهى الله عن السرف وذمه، فقال عز وجل: {...وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: 141) وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31)
ويبين الإمام العيني أن إضاعة المال هو أن يتركه من غير حفظ له، فيضيع، أو يتركه حتى يفسد، أو يرميه إذا كان يسيراً كبراً عن تناوله، أو بأن يرضى بالغبن، أو ينفقه في البناء واللباس والمطعم بإسراف، أو ينفقه في المعاصي. (عمدة القاري، 9/61)
ويعقب ابن حجر على ما جاء في بيان معنى السرف، فيقول: والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعاً، سواء أكانت دينية أم دنيوية، فمنع منه؛ لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح؛ إما في حق مضيعها، وإما في حق غيره، ويستثنى من ذلك كثرة إنفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقاً أخروياً أهم منه.(فتح الباري، 10/408)
ومن صور السرف المعاصرة التي تنطبق عليها معانيه المذمومة، إنفاق المال، بل هدره في مناسبات الفرح؛ كالزواج، والتخرج من الجامعات والمدارس، والابتهاج بالنجاح في التوجيهي، بإطلاق المفرقعات أو الرصاص في الهواء، وتهدر لأثمان ذلك الأموال الطائلة، التي لو أنفقت في سبيل الخير والصالحين الخاص والعام لآتت أكلها، وأينعت ثمارها، إضافة إلى ما ينتج عن هذا الاستخدام السيء من إزعاج، وترويع للناس الحاضرين في ساحات استخدامها والمجاورين لها، والسامعين لأصواتها، حتى إن سجل الحوادث يحوي عدداً من حالات الأضرار بالأجساد والممتلكات جراء هذا الإتلاف الأرعن للمال في غير مسارات الخير المشروعة، التي ليس منها التعبير عن الفرح بهذه الأساليب والوسائل الضارة والمتلفة للمال الباهظ في وجوه إسراف مبددة له، وقد تعزز النهي الرباني عن الإسراف ببيان أن الله لا يحب المسرفين، كما جاء في الآيتين 141 من سورة الأنعام و31 من الأعراف سالفتي الذكر، ومن صفات فرعون السيئة أنه من المسرفين، حسب ما جاء في قوله تعالى: {...وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (يونس:83)، وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ* مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ} (الدخان:30-31)
والسرف من أسباب سخط الله ودواعيه، الذي أهلك المسرفين، حسب المبين في قوله جل شأنه: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} (الأنبياء:9)، وهو كذلك من مسببات استحقاق النار وبئس المصير، مصداقاً لقوله تعالى: {...وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر:43)
ومن الخطر بمكان عظيم التبعية العمياء، لسلوك منحرف، تقليداً لمنهج ضال، فليس من مناهج الصالحين قول: إن أحسن الناس نحسن، وإن يسيئون نسيء، وأنبياء الله أمروا أقوامهم بتقوى الله، ونهوهم عن طاعة أمر المسرفين، فقال عز وجل عن قول نبيه صالح عليه السلام لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ*وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء:150-152)
والمسرفون هم الذين تجاوزوا الحد، الذين وصفهم وداؤهم الإفساد في الأرض بعمل المعاصي والدعوة إليها، إفساداً لا إصلاح فيه، وهذا أضر ما يكون؛ لأنه شر محض.(تفسير السعدي، 1/596)
فالسرف منهج سيء الأسلوب والنتاج والمصير، فكيف لعاقل أن يقبله أو ينهج دربه، مع ما فيه من شر وعواقب وخيمة، والفرح ليس مبرراً لتجاوز حدود الله، وإتباع نهج المسرفين الضالين.
التعبير المشروع عن الفرح والابتهاج
يخطئ الذي ينسى عند المسرات ذكر واهبها، وشكره سبحانه على آلائه، والله تعالى وعد الشاكرين بزيادة المنافع والخيرات، مصداقاً لقوله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم:7) فيفترض إيمانياً وعقلانياً في المنعم عليه بالخير أن يسجد لله شاكراً، لا أن يجول الحارات والشوارع والأزقة مزعجاً ومسرفاً، وهو يعلم يقيناً أن الله لا يحب المسرفين، ويهلكهم، كما أهلك الذين من قبلهم.
فينبغي شكر نعم الإله أن وفق الناجحين للنجاح، ويسر للمتزوجين سبل الزواج وأباحه لهم، لغايات سامية وراقية، وأباح التمتع بزينة الحياة وطيباتها، والله حرم على الناس اقتراف الآثام والخطايا، ومن ذلك التبجح بالفرح، والسرف في الإنفاق، والغفلة عن شكر واهب النعم والخيرات بالطاعات، وعند المآلات الوخيمة يكون التقريع لمتنكبي درب الحق في الفرح والابتهاج، وعن هذا يقول رب العزة: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ* ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(غافر:75-76)، فالفرح بغير حق درب الضالين، الذين يمرحون في الأرض أشراً وبطراً، والملائكة تقول لأولئك: هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم، ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فبئس مثوى المتكبرين(تفسير ابن كثير، 4/89)
بقي القول إن هذا تذكير للتفكير الضروري في خطوات التعبير عن الفرح والابتهاج ووسائله وأساليبه، لاختيار المناسب منها لأحكام الشرع الحنيف وقيمه، بعيداً عن مبغضات الأساليب ومنكراتها، عسى أن يشملنا الله مع الشاكرين الذين يزيدهم من مدد الخيرات والنعم لشكرهم، ويصرف عنهم ويلات الجحود والنكران والسرف، وإضاعة المال في الضار من الأمور، والمزعج للخلق، والمغضب للخالق جل في علاه، ولفعل ما كرهه الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
10 محرم 1445هـ