.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

لم يخش الفقر على المسلمين، ولكن خشي أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْهمْ الدُّنْيَا - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

قوله صلى الله عليه وسلم: (فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ) (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها)
وقفت الحلقة السابقة عند تعهد حكيم بن حزام للنبي، صلى الله عليه وسلم، بأن لا يرزأ أحداً، ومعناه أن لا ينقص مال أحد بالطلب، وبين الكرماني أن حكيم امتنع من الأخذ مبالغة في الاحتراز؛ وقد امتنع حكيم أن يقبل عطاءً من أبي بكر في الأول، ومن عمر في الثاني، ووجه امتناعه من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئاً فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولأنه خاف أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذكر في الحلقة كذلك بعض ما يستفاد من حديث حكيم بن حزام المشار إليه.
فَوَ اللهِ ما الْفَقْرَ أَخْشَى
بالنسبة للفظ الفقر في قوله، صلى الله عليه وسلم: (فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى) فإنه بالنصب يعني: ما أخشى عليكم الفقر، ويجوز الرفع بتقدير ضمير؛ أي ما الفقر أخشاه عليكم، ويرجح ابن حجر العسقلاني الأول، وهو النصب، وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم، ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة مما أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعه قبل أن يقع فوقع، وقال الطيبي: فائدة تقديم المفعول بههنا الاهتمام بشأن الفقر، فإن الوالد المشفق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم صلى الله عليه وسلم، أصحابه أنه وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب، لكن حاله في أمر المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى، الذي هو مطلوب الوالد لولده، والمراد بالفقر العهدي، وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء، ويحتمل الجنس، والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى؛ لأن مضرة الفقر دنيوية غالباً، ومضرة الغنى دينيه غالباً.(فتح الباري، 11/245)

وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا
جاء في مرقاة المفاتيح، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يخش عليهم الفقر؛ لأن الغالب عليه السلامة، وأنه أنفع لكم، ولذا قيل إن من العصمة أن لا تقدر، وإن كاد الفقر أن يكون كفراً (وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ) أي توسع (عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا)؛ أي فتعملوا معاملة الأغنياء الأغبياء، فتهلكوا بأنواع البلاء، كما بسطت على من كان قبلكم، أي فهلكوا بسبب عدم ترحمهم على الفقراء، لأجل كمال الميل إلى المال. (فَتَنَافَسُوهَا) بحذف إحدى التاءين، عطف على تبسط، من نافست في الشيء أي رغبت فيه، وبحقيقة أن المنافسة والتنافس ميل النفس إلى الشيء النفيس، ولذا قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين:26)، والمعنى فتختاروها أنتم، وترغبوا فيها غاية الرغبة (كَمَا تَنَافَسُوهَا) بصيغة الماضي، أي كما رغب فيها من قبلكم (وتهلككم) أي الدنيا (كما أهلكتهم).(مرقاة المفاتيح، 9/361)
ووجه الهلاك من التنافس على الدنيا أن المال مرغوب فيه، فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك، قال بن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها، وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها، ولا ينافس غيره فيها.(فتح الباري، 11/245)
ومن الشواهد التاريخية المعبرة التي ذكر القرآن الكريم بعضاً من جوانبها للاتعاظ والاعتبار، قصة قارون الذي بغى بعد أن آتاه الله مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، فقال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ* فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 76-83)
وفي موضع قرآني آخر ذكر الله استكبار قارون وفرعون وهامان ضد الحق والبينات التي آتاهم بها نبي الله موسى، عليه السلام، فقال عز وجل:{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}(العنكبوت: 39)
فالانشغال بالدنيا آفة، والتنافس عليها مهلك، أعاذنا الله من شر هاتين الآفتين، حتى ننجو من مصير المنشغلين بالدنيا وزينتها.
وبهذه الوقفة نختم في هذه المرحلة الحديث عن الخشية على المسلمين من أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، كما ذكر صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
18 ربيع الأول 1444هـ

تاريخ النشر 2022-10-14
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس