.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

لم يخش الفقر على المسلمين، ولكن خشي أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْهمْ الدُّنْيَا - الحلقة الثانية

==========================================================

عن حَكِيم بن حزام، قال: (يا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئاً حتى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أبو بَكْرٍ، رضي الله عنه، يَدْعُو حَكِيمًا إلى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ منه، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ، رضي الله عنه، دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئاً، فقال عُمَرُ: إني أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ على حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ من هذا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فلم يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا من الناس بَعْدَ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، حتى تُوُفِّيَ) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألأة)
وقفت الحلقة السابقة عند الخبر الصحيح الذي يبين في بدايته أن أبا عبيدة بن الجراح قدم من البحرين بمال من جزيتها، فتلهف صحابة من الأنصار، وتطلعوا لينالوا نصيباً من هذا المال، فانتبه النبي، صلى الله عليه وسلم، لذلك، وبَشَّرهم، وأشير في السياق إلى أن الإسلام لا يحارب النوازع البشرية التي فطر الله الناس عليها، لكنه يعمل على تهذيبها، لتلافي شرها، فلم يمنع الإنسان من جمع المال والحرص عليه، لكنه ألزمه بالكسب المشروع والإنفاق المباح أو الواجب، مع بيان أن الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لم يُبَارَكْ له فيه، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى. وقال حَكِيمٌ بن حزام لرَسُول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئاً حتى أُفَارِقَ الدُّنْيَا...) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة)

تعهد حكيم بن حزام بأن لا يرزأ أحداً
قوله: (لَا أَرْزَأُ) بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح الزاي وبالهمزة، معناه لا أنقص ماله بالطلب، وفي النهاية: (ما رزأته) أي ما نقصته. وقوله: (بَعْدَكَ) الخطاب للنبي، صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى غيرك، قال الكرماني: فإن قلت لِمَ امتنع من الأخذ مطلقاً، وهو مبارك إذا كان بسعة الصدر، مع عدم الإشراف، قلت مبالغة في الاحتراز؛ إذ مقتضى الجبلة الإشراف والحرص، والنفس سراقة، والعرق دساس، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقوله: (فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ منه)؛ أي فامتنع حكيم أن يقبل عطاءً من أبي بكر في الأول، ومن عمر في الثاني، ووجه امتناعه من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئاً فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولأنه خاف أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: (لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ) وقول عمر، رضي الله تعالى عنه: (إني أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ على حَكِيمٍ) لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه. (عمدة القاري، 9/52- 53، بتصرف)

ما يستفاد من حديث حكيم بن حزام
مما يستفاد من حديث حكيم بن حزام آنف الذكر، ما قال المهلب: إن سؤال السلطان الأكبر ليس بعار، وفيه أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وموعظته، وأمره بالتعفف، وترك الحرص، وفيه أن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة والضرورة؛ لأنه إذا كانت يده السفلى مع إباحة المسألة، فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الحاجة. وفيه أن من كان له حق عند أحد فإنه يجب عليه أخذه إذا أتى، فإن كان مما لا يستحقه إلاَّ ببسط اليد، فلا يجبر على أخذه. وفيه ما قال ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سخت بكذا، أي جادت، وسخت عن كذا، أي لم تلتفت إليه، وفيه أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فظهر أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه ضرب المثل بما لا يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلاَخ في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون بالأكل، إنما يؤكل ليشبع، فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه، وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر المال عند المرء بغير تحصيل منفعة، كان وجوده كالعدم. وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلاَّ بعد قضاء حاجته؛ لتقع موعظته له الموقع؛ لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه حاجته. وفيه جواز تكرر السؤال ثلاثاً، وجواز المنع في الرابعة. وفيه أن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة. (عمدة القاري، 9/ 53 بتصرف)
فهذه وقفة أخرى للتدبر في الخشية على المسلمين من أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، تخللتها وقفة ذات صلة، مع حديث حَكِيمَ بن حِزَامٍ، الذي تم شرحه وذكر ما يستفاد منه، راجين توفيق الله وتيسيره لمتابعة الحديث في الحلقة القادمة عن الخشية على المسلمين من أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، كما ذكر، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
11 ربيع الأول 1444هـ

تاريخ النشر 2022-10-07
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس