.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

نؤكد على حبه الجم في ذكرى مولده - الحلقة الأولى

==========================================================

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(صحيح البخاري)
يعمل عباد الله المسلمين ليل نهار، وعلى مدار الساعة على الاقتداء بنبيهم محمد، صلى الله عليه وسلم، تعبداً لله ربهم، وإيماناً منهم بسلامة هذا المنهج القويم، وبمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف يحسن التذكير بما يعزز درب التأسي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وذلك بالتأكيد على حبه الجم، الذي يدفع المحب للأخذ ذاتياً بما جاء به، عليه الصلاة والسلام، من مبادئ وأحكام وقيم وفضائل، والفرق كبير بين حال الذي يتأسى من منطلق الإيمان والقناعة والحب، وبين الذي ينقاد للأوامر والنواهي خوفاً من عقاب، أو طمعاً بمكافأة، أو مجاملة لهذا الطرف أو ذاك، أو تجنباً من لوم وحساب.
حب متفوق وذو دلالة
الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي يرويه عنه، خادمه أنس بن مالك، رضي الله عنه، والمثبت نصه أعلاه، يبين منزلة الحب المطلوبة من المسلمين له، فهو الحب الذي يفوق ما عداه من مجالات الحب الأخرى، ويذكر -على سبيل المثال لا الحصر- أطرافاً يحبهم الناس بطبيعتهم وسجيتهم، وهم الآباء والأبناء، ويضاف إليهم صنوف الناس أجمعين، ويشمل ذلك الأزواج والأصدقاء والإخوة والأرحام وغيرهم، فالخلق كلهم مشمولون بلزوم تفوق حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، على حبهم، ويربط الحب المطلوب بالإيمان، أي أنه ليس عشقاً قلبياً فحسب، بل هو حب ينطلق من عقيدة راسخة، ويوزن بميزانها، وتتبعه آثار عملية تترك بصماتها على السلوك، فَيُرفضُ التهاون فيه، أو تدني وتيرته وانخفاض حرارته.
ومن الأحاديث الصحيحة التي أكدت على الصلة بين حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبين الإيمان، حديث آخر لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»(صحيح البخاري)
يبين العيني أن في قَوْله: (حلاوة الْإِيمَان) شبه الْإِيمَان بالعسل، بِجَامِع ميل الْقلب إِلَيْهِمَا، وَأسْندَ إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص الْعَسَل، فَهُوَ اسْتِعَارَة.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:22/122)
ويبين زكريا الأنصاري في منحة الباري أن محبة اللَّه تكون بإرادة طاعته، ومحبة رسوله بإرادة متابعته، والمحبة وإن كانت طبيعية لا تدخل تحت الاختيار، لكن المراد: الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه ويستدعي اختياره، وإن كان على خلاف الهوى؛ كالمريض يعاف الدواء، ويميل إليه باختياره.(منحة الباري بشرح صحيح البخاري:9/192)
الحديث الأول فيه نفي الإيمان عمن لا يقدم حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، على حب والده وولده والناس أجمعين، وبعض العلماء يفسرون هذا النفي بأنه ليس لأصل الإيمان، وإنما لكماله، كما يبين القسطلاني أن قوله: (لا يؤمن أحدكم) إيمانًا كاملاً.(إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري:1/96)
وأُكد على هذا المعنى في مراجع أخرى كمنار القاري، الذي جاء فيه أنه لا يؤمن أحد من المسلمين الإِيمان الكامل حتى يكون حبه للرسول، صلى الله عليه وسلم، أقوى من حبه لأعز الأشياء لديه.(منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري:1/92)
ويقول السفيري بأنه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون الرسول، صلى الله عليه وسلم، أحب إليه من والده وولده، فمن لم يكن كذلك فهو ناقص الإيمان.(شرح البخاري للسفيري= المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية)
ويقول العيني: يُرِيد أنه لَا يبلغ حَقِيقَة الْإِيمَان وَأَعْلَى درجاته، حَتَّى يكون الرسول، صلى الله عليه وسلم، أحب إِلَيْهِ مما سواه.(عمدة القاري:23/173)
وفي الحديث الثاني نفي تذوق حلاوة الإيمان عن المرء حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وفي رواية صحيحة أخرى بيان بأن هذا الحب مع أمرين آخرين أركان مطلوبة لتذوق حلاوة الإيمان، فعَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»(صحيح البخاري)
ومعاني هذه الأحاديث الثلاثة تلتقي على ربط حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالإيمان، أي بالعقيدة، والرسول، صلى الله عليه وسلم، ذهب في توضيح معنى هذا الحب ومنزلته، إلى مستوى أرفع من المشار إليه في حديث أنس هذا، لما لم يقبل من عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن يقدم حب نفسه على حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن عَبْد اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآنَ يَا عُمَرُ»(صحيح البخاري)
وقد عبر الصحابة بأفعالهم وأقوالهم عن حبهم الجم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول عمرو بن العاص: (وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ). (صحيح مسلم)
حب بالاختيار العقلي
يبين الخطابي بأن الْمُرَاد بِالْمَحَبَّةِ هُنَا حُبُّ الِاخْتِيَارِ لَا حُبُّ الطَّبْعِ.(فتح الباري:1/59)
وجاء في عمدة القاري أن الْمحبَّة إِمَّا اعْتِقَاد النَّفْع، أَو ميل يتبع ذَلِك، أَو صفة مخصصة لأحد الطَّرفَيْنِ بالوقوع، ثمَّ الْميل قد يكون بِمَا يستلذه بحواسه كحسن الصُّورَة، وَلما يستلذه بعقله، كمحبة الْفضل وَالْجمال، وَقد يكون لإحسانه إِلَيْهِ وَدفع المضار عَنهُ، وَلَا يخفى أَن الْمعَانِي الثَّلَاثَة كلهَا مَوْجُودَة فِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ لما جمع من جمال الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَكَمَال أَنْوَاع الْفَضَائِل، وإحسانه إِلَى جَمِيع الْمُسلمين بهدايتهم إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم ودوام النعم، وَلَا شكّ أَن الثَّلَاثَة فِيهِ أكمل مِمَّا فِي الْوَالِدين لَو كَانَت فيهمَا، فَيجب كَونه أحب مِنْهُمَا، لِأَن الْمحبَّة ثَابِتَة لذَلِك، حَاصِلَة بحسبها، كَامِلَة بكمالها.
ومحبَّة الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، إِرَادَة فعل طَاعَته وَترك مُخَالفَته، وَهِي من وَاجِبَات الْإِسْلَام، قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إِلَى قَوْله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}(التَّوْبَة: 24)(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:1/144-145)
جاء في مرقاة المفاتيح أن الْمُرَاد هنا ليس الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، وَ{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286] بَلِ الْمُرَادُ الْحُبُّ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُوجِبُ إِيثَارَ مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ رُجْحَانَهُ، وَيَسْتَدْعِي اخْتِيَارَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْهَوَى كَحُبِّ الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ، فَإِنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَتَنَاوَلُ بِمُقْتَضَى عَقْلِهِ؛ لَمَّا عَلِمَ وَظَنَّ أَنَّ صَلَاحَهُ فِيهِ، وَإِنْ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ مَثَلًا لَوْ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَتْلِ أَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ بِأَنْ يُقَاتِلَ الْكُفَّارَ حَتَّى يَكُونَ شَهِيدًا لَأَحَبَّ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ السَّلَامَةَ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحُبَّ الْإِيمَانِيُّ النَّاشِئُ عَنِ الْإِجْلَالِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُوَ إِيثَارُ جَمِيعِ أَغْرَاضِ الْمَحْبُوبِ عَلَى جَمِيعِ أَغْرَاضِ غَيْرِهِ حَتَّى الْقَرِيبِ وَالنَّفْسِ، وَلَمَّا كَانَ جَامِعًا لِمُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ وَكَمَالِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ، اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، لا سِيَّمَا وَهُوَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ الْمَحْبُوبِ الْحَقِيقِيِّ الْهَادِي إِلَيْهِ، وَالدَّالُّ عَلَيْهِ، وَالْمُكَرَّمُ لَدَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ مَحَبَّتِهِ نَصْرُ سُنَّتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْ شَرِيعَتِهِ، وَتَمَنِّي إِدْرَاكِهِ فِي حَيَّاتِهِ لِيَبْذُلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ دُونَهُ.(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:1/73)
الإيمان به وتعزيره وتوقيره
الآية الثامنة من سورة الفتح خاطب فيها الله رسوله محمداً، صلى الله عليه وسلم، مبيناً بأنه أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وفي الآية العاشرة من السورة نفسها قرار منه سبحانه مفاده أن الذين يبايعونه إنما يبايعون الله، ووعيد للذين ينكثون عهودهم، وبين هاتين الآيتين تندرج الآية التاسعة، التي يقول فيها عز وجل: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(الفتح:9)
وقد اختلف في المقصود هنا، فبعضهم قال: إن قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} يعني النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وَتُسَبِّحُوهُ يعني الله عزّ وجلّ.(زاد المسير في علم التفسير:2/261)
ويبين الماوردي أن قوله عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تطيعوه، قاله بعض أهل اللغة.
الثاني: تعظموه، قاله الحسن والكلبي. الثالث: تنصروه وتمنعوا منه، ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع، قاله القطامي.
وفي {وَتُوَقِّرُوهُ} وجهان: أحدهما: تسودوه، قاله السدي.
الثاني: أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر: فمنهم من قال أن المراد بقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ} أي تعزروا الله وتوقروه؛ لأن قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ} راجع إلى الله، وكذلك ما تقدمه، فعلى هذا يكون تأويل قوله: {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك.
ومنهم من قال: المراد به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعزروه ويوقروه؛ لأنه قد تقدم ذكرها، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله، وبعضه راجعاً إلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك. فعلى هذا يكون تأويل {تُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة، لا بالاسم والكنية.
{وتُسَبِّحُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح. الثاني: هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح.(تفسير الماوردي= النكت والعيون:5/313)
محبة تقود للاتباع ونصرة الدين
يمكن التوفيق بين المختلفين فيمن أشير إليه بقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ...}(الفتح:9)، بأن نصرة الله هي نصرة للرسول، صلى الله عليه وسلم، وكذلك نصرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، هي نصرة لله، لأن بالنصرتين تتحقق النصرة للدين، وتلك الغاية المقصودة أولاً وأخيراً، والله تعالى أعلم، ويؤيد هذا المنحى قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(آل عمران:31)
جاء في أضواء البيان أن الله تعالى صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ مُوجِبٌ لِمَحَبَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ الْمُتَّبِعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هِيَ عَيْنُ طَاعَتِهِ تَعَالَى، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...}(النساء:80) وَقَالَ تَعَالَى:{...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...}(الحشر:7)
ويُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَلَامَةَ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هِيَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي يُخَالِفُهُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُحِبُّهُ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ مُحِبًّا لَهُ لَأَطَاعَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتَجْلِبُ الطَّاعَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
وَمَنْ لَوْ نَهَانِي مِنْ حُبِّهِ ... عَنِ الْمَاءِ عَطْشَانَ لَمْ أَشْرَبِ
وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
قَالَتْ: وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ حَالِ عَاشِقِهَا ... بِاللَّهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدِ
فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ رَهْنَ الْمَوْتِ مِنْ ظَمَأٍ ... وَقُلْتِ: قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدِ (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:1/199)

فهذه وقفة جلية مع أهمية حب المسلمين الجم لرسولهم محمد، صلى الله عليه وسلم، فهو حب متفوق وذو دلالة، ويتحقق بالاختيار العقلي، ويقود لاتباعه والعمل بشريعته وسنته، ونصرة دينه صلى الله عليه وسلم، سائلين الله العلي القدير أن يوفق للوقوف عند مزيد من جوانب هذا الموضوع الخاص بحب نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
10 ربيع أول 1446هـ

تاريخ النشر 2024-09-13
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس