.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

نؤكد على حبه الجم في ذكرى مولده - الحلقة الثانية والأخيرة

==========================================================

جاء في الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ، لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ) (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام)
وقفت الحلقة السابقة عند بعض متعلقات الحب الذاتي الجم الذي يكنه أحباب النبي محمد، صلى الله عليه وسلم له، ذاك الحب الذي يدفع للأخذ بما جاء به، عليه الصلاة والسلام، من مبادىء وأحكام وقيم وفضائل، والفرق شاسع بين حال الذي يتأسى من منطلق الإيمان والقناعة والحب، وبين الذي ينقاد للأوامر والنواهي خوفاً من عقاب، أو مجاملة لهذا الطرف أو ذاك، أو طمعاً بمكافأة، أو تجنباً من لوم وحساب، فحب النبي، صلى الله عليه وسلم، متفوق وذو دلالة، يفوق ما عداه من مجالات الحب الأخرى، وهو مرتبط بالإيمان، أي أنه ليس عشقاً قلبياً فحسب، وإنما ينطلق من عقيدة راسخة، ويوزن بميزانها، فيرفض التهاون فيه، أو تدني وتيرته وانخفاض حرارته، ولاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، حتى من حب النفس التي بين جنبي المحب.
والمُرَادُ بِالْمَحَبَّةِ هُنَا حُبُّ الِاخْتِيَارِ لَا حُبُّ الطَّبْعِ، ومحبَّة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، إِرَادَة فعل طَاعَته، وَترك مُخَالفَته، وَهِي من وَاجِبَات الْإِسْلَام، وَمِنْ مَحَبَّتِهِ، صلى الله عليه وسلم، نَصْرُ سُنَّتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْ شَرِيعَتِهِ، ومن مستلزمات هذا الحب الإيمان به وتعزيره وتوقيره، واتِّبَاعُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن علاماته تَمَنِّي المحب إِدْرَاكِهِ فِي حَيَّاتِهِ؛ لِيَبْذُلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ دُونَهُ.
رؤية أحب من مثل الأهل والمال
الشق المثبت نصه أعلاه من حديث البخاري الصحيح، يدل على منزلة من منازل الحب الرفيعة التي يكنها المسلم لرسوله، صلى الله عليه وسلم، والتي تصل لمستوى تكون فيه محبة المرء رؤية النبي، صلى الله عليه وسلم، متقدمة على أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ زَمَانٌ) أي بعد موته، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (لَأَنْ يَرَانِي) فيه (أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَهْلِهِ وَمَالِهِ) فكل واحد من الصحابة ومن بعدهم من المؤمنين يتمنى رؤيته عليه الصلاة والسلام، ولو فقد أهله وماله. (شرح القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 6 /48)
وذكر أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَادِيثَ في هذا السياق، مِنْهَا: قولهَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي، ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ) قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي، لَأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ)، وَهُوَ عِنْدِي مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ. (صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم وتمنيه)
يذكر النووي عن أَبي إِسْحَاق أن الْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِه لَأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ (وَهُوَ عِنْدِه مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ) ويذكر أيضاً أن هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، قَالَ: تَقْدِيرُهُ لَأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. (ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي) أَيْ رُؤْيَتُهُ إِيَّايَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ وَأَحْظَى مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَقْدِيمِ (لَأَنْ يَرَانِي) وَتَأْخِيرِ (مِنْ أَهْلِهِ) لَا يَرَانِي، كَمَا قَالَ، وَأَمَّا لَفْظَةُ مَعَهُمْ، فَعَلَى ظَاهِرِهَا وَفِي مَوْضِعِهَا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَأْتِي عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي فِيهِ لَحْظَةً، ثُمَّ لَا يَرَانِي بَعْدَهَا، أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ جَمِيعًا، وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ حَثُّهُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ مَجْلِسِهِ الْكَرِيمِ، وَمُشَاهَدَتِهِ حَضَرًا وَسَفَرًا. (صحيح مسلم بشرح النووي، 15 /118)
وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلا صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) (صحيح البخاري)
رَدَ الرسول، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث على من سأله عن موعد قيام الساعة، بطرح سؤال عملي عليه، بقوله: (ما أعددت لها)؟ أي ما هيأت لها من عمل؟ فأجابه بقوله: (مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
أي ما هيأت لها كثير نافلة من صيام ولا صلاة ولا صدقة، فقال له الرسول، صلى الله عليه وسلم: (أنت) في الجنة (مع من أحببت). فألحقه بحسن نيته من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة. (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10 /225-226)
قَوْلُهُ: «إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» أَيْ مُلْحَقٌ بِهِمْ، حَتَّى تَكُونَ مِنْ زُمْرَتِهِمْ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إِيرَادُ أَنَّ مَنَازِلَهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الْمَعِيَّةُ؟ فَيُقَالُ: إِنَّ الْمَعِيَّةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ فِي شَيْءٍ مَا، وَلَا تَلْزَمُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا اتُّفَقَ أَنَّ الْجَمِيعَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ صَدَقَتِ الْمَعِيَّةُ، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الدَّرَجَاتُ. (فتح الباري، 10 /555+560)
(أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) أَيْ: مُلْحَقٌ بِمَنْ غَلَبَ مَحَبَّتُهُ عَلَى مَحَبَّةِ غَيْرِهِ مِنَ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَمُدْخَلٌ فِي زُمْرَتِهِ، وَمِنْ عَلَامَةِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنْ يَخْتَارَ أَمْرَ الْمَحْبُوبِ وَفِيهِ عَلَى مُرَادِ غَيْرِهِ، وَلِذَا قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعَمْرُكَ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ. (مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، 8 /3135-3136)
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ) (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي، رضي الله عنه)
مما يدل على منهج الصحابة، رضي الله عنهم، في وزن الأمور واختيار الدرجات والأولويات، من هنا كان فرحهم غامراً لما سمعوا بوعد النبي، صلى الله عليه وسلم، لمحبيه بأن يحشروا مع من أحبوا، وترجمة لهذا الفهم تمنى أنس، رضي الله عنه، أن يحشر مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، لحبه لهم، وإن لم يرق في أعماله لمستوى أعمالهم، وهذا التصريح منه، رضي الله عنه، يشير كذلك إلى حسن تواضعه وموضوعيته.

أسلوب حكيم
بخصوص حديث أنس بن مالك آنف الذكر، يقول الْكِرْمَانِيُّ: سَلَكَ مَعَ السَّائِلِ أُسْلُوبَ الْحَكِيمِ، وَهُوَ تَلَقِّي السَّائِلَ بِغَيْرِ مَا يَطْلُبُ، مِمَّا يُهِمُّهُ، أَوْ هُوَ أَهَمُّ. (فتح الباري، 10 /555+560)
وقال ابن بطال: فيه جواز سكوت العالم عن جواب السائل والمستفتي إذا كانت المسألة لا تعرف، أو كانت مما لا حاجة بالناس إليها، أو كانت مما يخشى منها الفتنة أو سوء التأويل. (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 10 /225-226)
وقَالَ الطِّيبِيُّ: سَلَكَ مَعَ السَّائِلِ طَرِيقَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، فَقِيلَ لَهُ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا؟ وَإِنَّمَا يَهُمُّكَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأُهُبَّتِهَا، وَتَعْتَنِي بِمَا يَنْفَعُكَ عِنْدَ إِرْسَالِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَبَعْدَهُ مِنَ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى لَا يَخْفَى.
وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كُلُّهَا فُرُوعٌ لِلْمَحَبَّةِ، مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ أَعْلَمُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِ الطَّائِرِينَ، فَإِنَّهَا بَاعِثَةٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ، أَوْ نَتِيجَةٌ لَهَا. قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) وَقَالَ: {قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31)، فَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ الْوَاضِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ الْمُجَرَّدَةَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَابَعَةِ لَيْسَ لَهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، وَلَا كَبِيرُ عَائِدَةٍ. (مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، 8 /3135-3136)
وعيد للذين يتنكبون منهج إيثار حبه صلى الله عليه وسلم
توعد الله الذين يؤثرون أي محبة على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله، بالتربص حتى يأتي الله بأمره، فقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24)
يبين القشيري في سياق استنباطه دلالات الإشارات من هذه الآية الكريمة بأن محبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية، وتقتضى منه تلك الحالة إيثاره- سبحانه- على كل شىء، وعلى كل أحد.
وشرط المحبة ألا يكون فيها حظّ بحال، فمن لم يفن عن حظوظه بالكلّية فليس له من المحبة شظيّة.
ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانه إليه ولطفه به، وهى إرادة فضل مخصوص، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه، فعلى هذا تكون من صفات فعله.
ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك فى محبوبك. (لطائف الإشارات، تفسير القشيري، 1 /235)
وفي سبب نزول هذه الآية الكريمة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في الذين تخلَّفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن علي بن أبي طالب قدم مكة، فقال لقوم: ألا تهاجرون؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن سيرين.
والثالث: أنه لما نزلت الآية التي قبلها، قالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية.
والعشيرة، هم الأقارب الأدنون. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتربص: الانتظار. وفي قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد والأكثرون، ومعنى الآية: إن كان المُقام في أهاليكم، وكانت الأموال التي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها لفراقكم بلدكم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ من الهجرة، فأقيموا غير مثابين، حتى تُفتح مكة، فيسقط فرض الهجرة. والثاني: أنه العقاب، قاله الحسن. (زاد المسير في علم التفسير، 2 /245-246)
فمحبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مقامها عظيم، ومنزلتها في ديننا رفيعة، فينبغي أن تظهر آثارها بَيّنة في سلوكنا وحسن اتّباعنا لشرع ربنا، وهو القائل سبحانه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران: 31)
وبهذه الوقفة نختم بحمد الله الحديث عن التأكيد على حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، الجم في ذكرى مولده حتى إن رؤيته تكون لديه أحب من مثل الأهل والمال، وَالذي يفضل حبّ اللَّه وَرَسُولهُ يختلف جزاؤه عن الذين يتنكبون الدرب فيؤثرون حب الآباء والإخوان والعشيرة والمال والتجارة على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وصلى الله على نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
17 ربيع أول 1446هـ

تاريخ النشر 2024-09-20
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس