.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

نصره الله وصحبه يوم الفرقان في السابع عشر من رمضان

==========================================================

عن ابن عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال يوم بَدْرٍ: (هذا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عليه أَدَاةُ الْحَرْبِ)(صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب منه)
غزوة بدر الكبرى هي الغزوة الفاصلة الكبرى والأولى التي وقعت بين معسكر الحق وعدوه وبين معسكر الباطل بعد سنين عجاف من الصراع، متعدد الأشكال والحوادث، فما أن هاجر الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من مكة انتصاراً للدين وذوداً عنه، بعد مرحلة دعوية هدفت لإنقاذ الناس من الضلال إلى الهدى، لكنها جوبهت بعداء مرير من جاحدي الإيمان، وفي رمضان من السنة الثانية للهجرة، بعد أن صار للمسلمين كيان عناصره أنصار ومهاجرون، ويقوده النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي أمر باعتراض عير قريش المحملة ببضائع تجارية، قاصداً البدء بالرد على اعتداءات الذين اضطهدوا المسلمين، وأرغموهم على الهجرة من وطنهم، تاركين بيوتهم وأموالهم وأهليهم وراءهم، فاجتمعت الأسباب لوقعة بدر الفاصلة، التي انتهت بانتصار المسلمين نصراً مؤزراً، فصل الله فيه بين الحق والباطل، من هنا كانت تسمية بدر بيوم الفرقان، الذي ذكره الله في القرآن الكريم، فقال سبحانه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الأنفال:41)
وأشار القرآن الكريم إلى الهدف السامي لغزوة بدر في بدايات الحديث عن بعض مجرياتها في سورة الأنفال، فقال تعالى: {... لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(الأنفال:8)
النصر بجند الله وملائكته
يشير حديث ابن عباس المثبت نصه أعلاه إلى جانب من مجريات غزوة بدر، يخص تأييد معسكر المسلمين في غزوة بدر الكبرى بالملائكة، يقاتلون معهم، وينافحون عنهم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه) أي على جبريل (أداة الحرب) أي آلته.(مرقاة المفاتيح:9/3781) وفي القرآن الكريم إخبار واضح عن مشاركة الملائكة في القتال إلى جانب المسلمين في بدر، فيقول عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ* إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}(الأنفال:9-12)
هذه الآيات الكريمة تخبر عن أصناف من المدد الرباني للمسلمين في غزوة بدر، تمثلت في الملائكة، والنعاس، وماء السماء، وكل ذلك يندرج ضمن منظومة جند الله، الذين يؤيد الله بهم أولياءه، ويقصم بهم أعداءه، وما جرى يوم بدر يمكن أن يتكرر بشكل أو بآخر في أي زمان أو مكان، وما ذلك على الله بعزيز.
مع ضرورة التنبيه هنا إلى أن الاتكال على المدد بجند الله لم يكن هو المنهج القويم، بل المنهج السليم هو الذي أرساه النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان به أسوة للمسلمين، فقد أعد العدة اللازمة للمواجهة، فخطط واستشار أصحاب الخبرة في الاستراتيجيات والأمور العسكرية، ودعا ربه أن ينصره، وألح في دعائه، وباختصار أخذ بالأسباب إلى جانب الدعاء، ومن ذلك ما جاء في حديث حَمْزَةَ بن أبي أُسَيْدٍ عن أبيه، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم بَدْرٍ حين صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لنا:(إذا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ)(صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب التحريض على الرمي) وفي فتح الباري، أن الكثب بفتحتين القرب، فالمعنى إذا دنوا منكم، وقد استشكل بأن الذي يليق بالدنو المطاعنة بالرمح، والمضاربة بالسيف، وأما الذي يليق برمي النبل فالبعد، ورد على ذلك بأن المراد بالقرب المطلوب في الرمي قرب نسبي، بحيث تنالهم السهام لأقرب قريب، بحيث يلتحمون معهم، والنبل بفتح النون، وسكون الباء، جمع نبله، ويجمع أيضا على نبال، وهي السهام العربية اللطاف.(فتح الباري:6/92)، فلم يكتف عليه الصلاة والسلام بالدعاء، بل أمر بعمل اللازم للمواجهة العسكرية.
نعمة النصر والتمكين
عانى المسلمون قبل انتصارهم ببدر الأمرين من اضطهاد الظالمين، وفي خضم معاناتهم تلقوا وعداً من الله بالنصر والتمكين، فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(النور:55)
وقد كان من ثم نصر الله المسلمين ببدر باهراً، قويت به شوكة المسلمين، وقوي عودهم، ويسر الله لدينهم الانتشار في أصقاع الدنيا، فمن سبحانه عليهم به، فقال عز وجل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(آل عمران:123)
وقد يكون لهذا النصر فضل عظيم في انتشار الإسلام وبقائه إلى يومنا هذا، وسيبقى أثر ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقاً لوعده سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء:105)
سائلين الله العلي القدير أن يمن علينا بنصر من عنده قريب، كما نصر أولياءه وأصفياءه السالفين، ويوم الفرقان يوم التقى الجمعان، الذي انتصر المسلمون فيه وهم ضعفاء بعون الله، فصدقهم الله وصدقوه بقيادة رسولهم محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
16 رمضان 1444هـ

تاريخ النشر 2023-04-07
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس