.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

وبعض أقواله ومواقفه قبيل بدر الكبرى وخلالها

==========================================================

عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّبِيتِ -قَبِيلة مِنَ الْأَنْصَارِ- فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَمِلَ هَذَا يَسِيرًا، وَأُجِرَ كَثِيرًا) (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد)
وعد الله المسلمين إحدى الطائفتين أنها لهم قبيل بدر
غزوة بدر الكبرى هي الأولى في تاريخ الإسلام من حيث الزخم والحجم والأثر، ووقعت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وذلك بعد أن تعرض المسلمون لقافلة قريش التجارية القادمة من الشام إلى الحجاز، في سياق الرد على عدوان كفارها على الإسلام والمسلمين، الذي تسبب في الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ونجت القافلة لكن قريش أرادت الرد، فكان حتماً لازماً على المسلمين أن يتصدوا لها.
وقد وعد الله المسلمين بالظفر بعير قريش أو في مواجهتها عسكرياً، فرغب بعض المسلمين في الظفر بالعير على المواجهة التي وعدوا بالنصر فيها، غير أن الله تعالى أراد لهم الثانية.
وهناك ظروف تمهيدية سبقت أحداث غزوة بدر الكبرى ومجرياتها، أشار إلى جانب منها وبعض أبعادها قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (الأنفال:7) فقد بلغ الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها، فأمر بالخروج لاعتراضها، وسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه، بين مهاجري وأنصاري، ولما بلغ أبا سفيان خروجُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنفر أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل مكة في ألف رجل، أو نحو ذلك، وحينها أوحى الله إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحياً وعده فيه إحدى الطائفتين، فعرّف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصحابه بذلك، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها، لكن الله هيأ الأسباب للطائفة الأخرى، وهي الظفر في المعركة، التي كنى عنها الله بـ(ذات الشوكة)، ويبين الطاهر بن عاشور أن المراد بها صاحبة الشوكة، ووقع {ذَاتِ} صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة؛ أي الطائفة التي لا تستطيع القتال، وشاع استعارة الشوكة للبأس، وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المسلمين بانصراف عير قريش نحو الساحل، وبمجيء نفيرهم إلى بدر، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين؛ أي إما العير وإما النفير، وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما، ثم استشارهم في الأمر، أيختارون اللحاق بالعير، أم يقصدون نفير قريش، فقال الناس: إنما خرجنا لأجل العير، وراموا اللحاق بالعير، واعتذروا بضعف استعدادهم، فذلك معنى قوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي تودون غنيمة دون حرب، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش، وراموا لقاء العير، كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير، ولعل الاستشارة كانت صورية أمر الله بها نبيه لتثبيت المسلمين؛ لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة. (التحرير والتنوير، 9 /28-29)
وحيث إن هذا المقال يهدف للتركيز على بعض أقواله، صلى الله عليه وسلم، ومواقفه قبيل الخوض في غمار غزوة بدر وخلالها، لاستنباط الدروس والعبر والعظات منها، وتماشياً مع القدر المتاح من المساحة والمجال هنا، نركز على أقوال محدودة، وذلك على النحو الآتي:
عمل يسير وأجر كثير
حديث البراء، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، عقب فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، على مقتل ذاك الرجل في غزوة بدر، بعد أن أسلم قبيلها فقط، فقال عليه الصلاة والسلام: (عَمِلَ هَذَا يَسِيرًا، وَأُجِرَ كَثِيرًا)
وفي رواية أخرى صحيحة عن البراء، رضي الله عنه، أنه قال: (أَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ(1)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال)
يرتبط هذا الحديث بمبدأ العبرة بخواتيم الأعمال، فرب امرئ أطال في الطاعة وختم أعماله بالردة عنها، أو باللجوء إلى المعاصي، فهذا خسر خسراناً مبيناً، بخلاف الذي وفقه الله للتوبة والإنابة قبيل وفاته، كالذي قال فيه صلى الله عليه وسلم، ما قال في هذا الحديث الشريف، بعد أن وفقه الله للهدى قبيل مشاركته في بدر الكبرى، وختمت أعماله بذلك.
يذكر ابن بطال عن المهلب: أن في هذا الحديث دليلاً أن الله يعطي الثواب الجزيل على العمل اليسير؛ تفضلاً منه على عباده، فاستحق هذا نعيم الأبد في الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلاً؛ لأنه اعتقد أنه لو عاش لكان مؤمنًا طول حياته فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد في النار؛ لأنه انضاف إلى كفره اعتقاده أنه يكون كافرًا طول حياته؛ لأن الأعمال بالنيات. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 5 /24)
لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا
ضمن حديث صحيح يروي الصحابي الجليل أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صرح بعد استماعه لإفادة رسوله (بُسَيْسَة) الذي قدم من مهمته المكلف بها المتعلقة باستجلاب أخبار عن عير قريش التي كانت تحت إمرة أبي سفيان بن حرب، فقال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا)، حيث قال أَنَس بْن مَالِكٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا في الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لاَ أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ، قَالَ فَحَدَّثَهُ الحَدِيثَ، قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَتَكَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا، فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ في ظُهْرَانِهِمْ في عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: لاَ إِلاَّ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا). (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد)
يبين النووي أن قوله: (عيناً) أي متجسساً ورقيباً، والعير في قوله: (ما صنعت عير أبي سفيان) هي الدواب التي تحمل الطعام وغيره من الأمتعة، ولا تسمى عيراً إلا إذا كانت كذلك، وقوله، صلى الله عليه و سلم: (إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا)؛ أي شيئاً نطلبه، والظهر الدواب التي تركب، وقوله: (فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم) هو بضم الظاء، وإسكان الهاء، أي مركوباتهم، وفي هذا استحباب التورية في الحرب، وأن لا يبين الإمام جهة إغارته وإغارة سراياه؛ لئلا يشيع ذلك فيحذرهم العدو. (صحيح مسلم بشرح النووي ، 13 /44)
قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ
ضمن التحفيز على القيام بالواجب الذي يقتضيه لقاء المسلمين العسكري الأول بمشركي قريش، خاطب عليه الصلاة والسلام، جيشه بقوله: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) ومثل التجاوب مع هذا التحفيز الصحابي الجليل الذي رمى تمرات كن في يده، وقال: (بخ بخ)، وهذا ثابت في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم، وفيه: (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه، صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيء حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟؟!! قَال:َ نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: "بَخٍ بَخٍ"؟ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ(2)، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ). (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد)
ويبين النووي المراد من قوله، صلى الله عليه وسلم: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه" أي قدامه متقدماً في ذلك الشيء؛ لئلا يفوت شيء من المصالح التي لا تعلمونها، وقول عمير بن الحمام: (بخ بخ) فيه لغتان، إسكان الخاء، وكسرها منوناً، وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير، قوله: (لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا) معناه والله ما فعلته لشيء إلا لرجاء أن أكون من أهلها. وقوله: (فأخرج تمرات من قرنه) أي من جعبة النشاب. (صحيح مسلم بشرح النووي، 13 /45-46)
أي قوموا إلى عمل هو سبب دخول الجنة، أو أريد به المبالغة. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 11 /451)
وقد حث الله على المسارعة الدائمة إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عز وجل:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133)
وشبهت سعة الجنة بسعة السماوات والأرض، وإن كانت الجنة أوسع، مخاطبة لنا بما شاهدنا؛ إذ لم نشاهد أوسع من السماوات والأرض. (شرح السيوطي على مسلم، 4 /495)
فهذا تذكير ببعض حيثيات غزوة بدر، وبعض أقواله، صلى الله عليه وسلم، قبيلها وخلالها، نذكر بها بمناسبة ذكراها التي توافق السابع عشر من رمضان، عسى أن يكون في ذلك نفع مبين للقارئين والمتابعين، ممن يهتدون بهدي خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الهوامش
1. معنى "مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ"؛ أي مغطى بالسلاح. (تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، 1 /43)
2. من قرنه: أي من جعبته. (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، للقاضي عياض، 6 /165)

14 رمضان 1446هـ

تاريخ النشر 2025-03-14
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس