يخبر الله جل في علاه عن موقف المؤمنين إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فيقول عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:51)
تعرضت الحلقة السابقة إلى لزوم الاحتكام للشرع الحنيف، انسجاماً مع النهي الرباني عن التقدم بين يدي الله ورسوله، ومع مضامين الأوامر الإلهية بالخصوص، فقد أقسم الله سبحانه بجلاله لرسوله، عليه الصلاة والسلام، بأنه لا يؤمن أحد حتى يحكمه في الأمور جميعها، ثم ينقاد لما حكم به ظاهراً وباطناً، ويسلم لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، والرسول، صلى الله عليه وسلم، تلزم طاعته على هذا النحو بصفته يتلقى الأوامر والتشريع والدين بكليته من الوحي الإلهي، وهذا أمر واضح الأبعاد، جلي المعنى، لا يقبل المساومة، وأنصاف المواقف.
سمعنا وأطعنا
تواصلاً مع الحديث عن لزوم التقيد بالنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، يأتي هذا الشاهد الرباني المتضمن في الآية الكريمة الحادية والخمسين من سورة النور، والمثبت نصها أعلاه، حيث يصف سبحانه موقف المؤمنين من الدعوة للاحتكام إلى الله ورسوله، بكلمتين هما: سمعنا وأطعنا، فالمؤمن المأمور بالطاعة المطلقة لله ورسوله، والمنهي عن التقدم بين يديهما، والموقن بلزوم الاحتكام لله ورسوله، والتسليم بحكمهما، يجد لزاماً عليه الانصياع لحكمه والتقيد به، في الأحوال كلها، عملاً بمنهج السلف الأخيار، الذي يخبر عنه الصحابي الجليل عُبَادَة بن الصَّامِتِ، حيث قال: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، في الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ، أو نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كنا، لَا نَخَافُ في اللَّهِ لومة لَائِمٍ) (صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس)
وفي الآية الكريمة أعلاه إخبار عن تقيد المؤمنين بمنهج السمع والطاعة لله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فموقفهم محصور في التسليم الكلي، والانقياد التام ظاهراً وباطناً لما حكم به صلى الله عليه وسلم. (أضواء البيان، 1/246)، ومعلوم من الدين بالضرورة أن طاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، من طاعة الله، مصداقاً لقوله عز وجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء:80)
وفي سور القرآن الكريم عدد من الآيات المخبرة عن تقيد المؤمنين بالسمع والطاعة للدين، ففي أواخر سورة البقرة يقول عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)
ومن انحراف بني إسرائيل تنكرهم للسمع والطاعة، حيث يقول تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:46)
ويُذكرُ الله المسلمين بالعهد الذي قطعوه للنبي، صلى الله عليه وسلم، بأن يكون منهم السمع والطاعة، فيقول جل شأنه: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (المائدة:7)
فالسمع والطاعة للدين الممثل للحق الثابت عن الله، وعن رسوله، صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، أمر لازم لا مناص منه، ولا مفر عنه، ليس لأحد من المؤمنين أن يسوف في التقيد به، والعمل بموجبه.
إنما الطاعة في المعروف
قد يتساءل بعض الناس عن لزوم السمع والطاعة، في ضوء تقييد الطاعة بالمعروف، حسب ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (...إنما الطَّاعَةُ في المَعْرُوفِ)(صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية)
والرد عن هذا التساؤل يتلخص في أن المعروف الذي تتقيد به الطاعة يخص طاعة البشر من غير الأنبياء، كالأمراء والمسؤولين والعلماء والآباء والأزواج، بينما طاعة الله والرسول، صلى الله عليه وسلم، مطلقة؛ لأنها لا تكون إلا في المعروف، والعلماء استنتجوا هذا الفهم من ذكر لفظ الطاعة عند الأمر بها لله، وذكرها أيضاً عند الأمر بها للرسول، صلى الله عليه وسلم، في الآية الكريمة المتضمنة لذلك، بينما ذكر الأمر بطاعة أولي الأمر في الآية الكريمة نفسها من غير تكرار ذكر لفظ الطاعة، حيث يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59)
جاء في التفسير أن تصدير الشرطية بالفاء في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ..} لترتبها على ما قبلها، فإن بيان حكم طاعة أولى الأمر عند موافقتها لطاعة الله تعالى وطاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، يستدعى بيان حكمها عند المخالفة، أي إن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين، فارجعوا فيه إلى كتاب الله والرسول؛ أي إلى سنته. (تفسير أبي السعود 2/193)
فهذه وقفة أخرى عند أبعاد نهي الله عن التقدم بين يديه ويدي نبيه، صلى الله عليه وسلم، في ضوء فاتحة سورة الحجرات، التي نرجو أن تتيسر متابعة الوقوف عند المزيد من معانيها وجوانبها، والنصوص الشرعية الملتقية معها في المعنى والدلالة، ونسأله سبحانه أن يهدينا للعمل بما يرضيه، وأن يوفقنا لحسن طاعته، وطاعة رسوله محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
27 جمادى الأولى 1443هـ