.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

وتحريم التقدم بين يديه - الحلقة الثانية

==========================================================

يقول عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء: 65)
تعرضت الحلقة السابقة إلى نهي الله عباده المؤمنين عن أن يقدموا بين يدي الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وإلى الأقوال الثلاثة في تفسير المراد بهذا النهي، وأرجحها أن لا تتكلموا بأمر قبل أن يتكلم هو به، ولا تقطعوا في أمر إلا بنظره، ومن أوجه ترجيح هذا القول إنه يعم المؤمنين في كل مكان وحين، فتقيد المؤمنين بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالانتهاء عن التقدم بين يديه يكون ممكناً بناء عليه، وأشارت الحلقة إلى اتفاق هذا النهي الرباني عن التقدم بين يدي الله ورسوله، وفق هذا المعنى مع أمره سبحانه المتضمن في صريح عدد من آيات التنزيل، التي تأمر بطاعة الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، اللتان تلتقيان في لزوم التقيد بالوحي الإلهي سواء بالقرآن الكريم، أم بما صدر عن النبي، عليه الصلاة والسلام، كونه لا ينطق عن الهوى، والرسول، صلى الله عليه وسلم، يؤكد حقيقة تقيده بما يرده من الوحي، فقال عز وجل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ...} (الأنعام:50)، والمؤمنون ملزمون بهذه الطاعة في شأنهم كله بعيداً عن المزاجيات والأهواء، عملاً بقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} (الأحزاب:36)

لزوم الاحتكام إلى الشرع الحنيف
يتماشى مضمون الآية الكريمة أعلاه، مع النهي الرباني عن التقدم بين يدي الله ورسوله، ومع مضامين الأوامر الإلهية بطاعة الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فالله يقسم بجلاله لرسوله، عليه الصلاة والسلام، بأنه لا يؤمن أحد حتى يحكمه في الأمور جميعها، ثم ينقاد لما حكم به ظاهراً وباطناً، ويسلم لذلك تسليماً كلياً، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، وفي آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي، والانقياد التام ظاهراً وباطناً لما حكم به، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا...الآية} (النور: 51)(أضواء البيان، 1/246)
يقول الرازي في التفسير الكبير: اعلم أن قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط، أولها قوله تعالى: {حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول، صلى الله عليه وسلم، لا يكون مؤمناً. (التفسير الكبير، 10/131)
فالرسول، صلى الله عليه وسلم، تلزم طاعته على هذا النحو بصفته يتلقى الأوامر والتشريع والدين بكليته من الوحي الإلهي، وهذا أمر واضح الأبعاد، جلي المعنى، لا يقبل المساومة وأنصاف المواقف، من هنا جاء الالتزام به على هذا النحو المتضمن قسم رب العزة بذاته على نفي الإيمان عمن لا يحتكم إلى شرع الله، الممثل بحكم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبعض المفسرين أول هذا بنفي كمال الإيمان، وليس نفيه بالكلية.

مناسبة نزول هذه الآية الكريمة
جاء في صحيح الحديث الشريف، عن عُرْوَةَ عن عبد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، رضي الله عنهما، أَنَّهُ حدثه: (أَنَّ رَجُلًا من الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النبي، صلى الله عليه وسلم، في شِرَاجِ الْحَرَّةِ التي يَسْقُونَ بها النَّخْلَ، فقال الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّح الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عليه، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، لِلزُّبَيْرِ: اسق يا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، فقال: إنْ كان ابن عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قال: اسْقِ يا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِس الْمَاءَ، حتى يَرْجِعَ إلى الْجَدْرِ، فقال الزُّبَيْرُ: والله إني لَأَحْسِبُ هذه الْآيَةَ نَزَلَتْ في ذلك {فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (صحيح البخاري، كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار)
جاء في عمدة القاري: الشراج من الشرج، وهو مسيل الماء، وإنما أضيف إلى الحرة لكونه فيها، والحرة من الأرض الصلبة الغليظة، التي أفنيتها كلها حجارة سود نخرة، وقوله: (سَرِّحْ الْمَاءَ) أمر من التسريح، أي أرسله وسيِّبه، قوله: (يَمُرُّ) جملة وقعت حالاً من الماء، وقوله: (فَأَبَى عليه)؛ أي امتنع الزبير على الذي خاصمه من إرسال الماء، وإنما قال الأنصاري ذلك؛ لأن الماء كان يمر بأرض الزبير قبل أرض الأنصاري، فحبسه لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك، فأبى عليه، وقوله: (إنْ كان ابن عَمَّتِكَ؟!) التقدير حكمت له بالتقديم لأجل أنه ابن عمتك، وكانت أم الزبير صفية بنت عبد المطلب، وهي عمة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقوله: (فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم) أي تغير، وهذا كناية عن الغضب، وقوله: (ثُمَّ احْبِس الْمَاءَ) ليس المراد منه أمسك الماء، بل أمسك نفسك عن السقي حتى يرجع إلى الجدر، أي حتى يصير إليه، والجدر من الجدار الذي هو الحائل بين المشارب، وهو الحواجز التي تحبس الماء، وقد أقسم الزبير أن هذه الآية نزلت في ذلك. (عمدة القاري، 12/201- 202)
فهذه وقفة أخرى عند أبعاد نهي الله عن التقدم بين يديه ويدي نبيه، صلى الله عليه وسلم، في ضوء فاتحة سورة الحجرات، التي نرجو أن تتيسر متابعة الوقوف عند المزيد من معانيها وجوانبها، والنصوص الشرعية الملتقية معها في المعنى والدلالة، ونسأله سبحانه أن يهدينا للعمل بما يرضيه، وأن يوفقنا لحسن طاعته، وطاعة رسوله محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
20 جمادى الأولى 1443هـ

تاريخ النشر 2021-12-24
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس