عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أن نَبِي اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه)
وقفت الحلقة السابقة عند المقترح المقدم للنبي، صلى الله عليه وسلم، من بعض الصحابة، رضي الله عنهم، بأن يلعن المشركين، بما يعني الدعاء عليهم بالهلاك، وأن يطردوا من رحمة الله، بسبب جرائمهم المروعة والفظيعة ضد الإسلام والمسلمين، وفي الموقف من هذا المقترح وما شابهه تفصيل، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، امتنع هنا عن الدعاء عليهم، وثبت في أحاديث صحيحة أخرى أنه دعا على أقوام معينين من المشركين والظالمين، ومن ذلك قوله: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ»(صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة) ودعا على من شغل المسلمين من الكفار عن صلاة العصر يوم الأحزاب، وقَالَ: «اللَّهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الوَبَاءِ»(صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة) ودعا الله أن ينْقُلْ حُمَّى المدينة إِلَى الجُحْفَةِ. وللعلماء تفصيل واسع في هذه المسألة، استناداً إلى الروايات الصحيحة بالخصوص، التي يظهر بعضها الترفع عن اللعن، وبعضها الآخر يثبت التلفظ به، مما يوحي بأن للعن أحكاماً، وأن التلفظ به يجوز في أحوال معينة، وفي غيرها يمنع، فالإمام العيني يجيز الدُّعَاء على الْكفَّار إِذا أساؤوا الْأَدَب، وأهانوا الدّين، ويجوز الدُّعَاء على الْكفَّار بالأمراض والبليات، واستنبط القسطلاني من بعض هذه الروايات أن الدعاء على الكفار والظلمة لا يقطع الصلاة، وروي عن الخطابي قوله: أَنَّ الدُّعَاءَ لِقَوْمٍ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ لَا يُفْسِدُهَا.
والمجال هنا يضيق بتفصيل أقوال العلماء وآرائهم في هذه المسألة، لكن التوفيق بين منع اللعن في العموم والتلفظ به أحياناً ممكن، ومن معززات المنع العام للعن حسب ما ذكر في الحلقة السابقة قوله صلى الله عليه وسلم: " لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا"(صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها) أي أن تكثير اللعن ليس من دأبي وسنَّتي، ودعوته على (رعل وذكوان) حين قتلوا أصحاب بئر معونة، فإما كان قبل هذا الحديث، وصار هذا الحديث كالنَّاسخ له، وإليه مال القرطبي، وإما أن يكون في أسباب مخصوصة مستثناة من عموم هذا الحديث، والله سبحانه أعلم.
وإرباء الرسول، صلى الله عليه وسلم، لسانه عن اللعن، يتماشى مع حثه على طهارة اللسان بشكل عام، ومن ذلك بيانه أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يكن سَبَّابًا، وَلاَ فَحَّاشًا، وَلاَ لَعَّانًا، وكَانَ يَقُولُ لمن يعاتبه: «مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ»(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي، صلى الله عليه وسلم، فاحشاً ولا متفحشاً)
ولما دار بينه وبين عائشة زوجه نقاش حول قول نفر من اليهود لما دخلوا عليه: "السام عليكم" قال لها: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» وفي حادثة أخرى علل موقفه من الانبشاش لأناس يذمهم، بقوله: (مَتَى عهدتني فحاشاً؟؟!!) وأخبر أن أكثر أهل النار من النساء بسببين، أحدهما أنهن يكثرن اللعن، ونهى صلى الله عليه وسلم، عن لعن الدواب.
إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً للعالمين
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»(صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها) يفيد أنه بعث رحمة لِلنَّاسِ عَامَّةً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، مُتَخَلِّقًا بِوَصْفِي الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمَّا لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا لِلْكَافِرِينَ فَلِأَنَّ الْعَذَابَ رُفِعَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}[الأنفال: 33] فعَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ مُرْتَفِعٌ عَنْهُمْ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُقَرِّبَ النَّاسَ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَحْمَتِهِ، وَمَا بُعِثْتُ لِأُبْعِدَهُمْ عَنْهَا، فَاللَّعْنُ مُنَافٍ لِحَالِي، فَكَيْفَ أَلْعَنُ؟!(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:9/3714)
ويبين السمرقندي أن الله ما أرسل الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلا رحمة للعالمين، يعني: نعمة للجن والإنس. ويقال: "لِلْعالَمِينَ" أي للخلق جميعاً؛ لأن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر، ومنافق. وكان رحمة للمؤمنين، حيث هداهم طريق الجنة، ورحمة للمنافقين، حيث أمنوا القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب.(تفسير السمرقندي =بحر العلوم:2/445)
وقال ابن زيد: يعني المؤمنين خاصة. وقال ابن عباس: هو عامّ؛ فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي ممّا أصاب الأمم من المسخ والخسف والقذف.(تفسير الثعلبي=الكشف والبيان عن تفسير القرآن:6/314)
الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ
ثبت في الروايات الصحيحة تحليه صلى الله عليه وسلم، بالحلم والأناة، وأشاد عليه الصلاة والسلام، بهاتين الخصلتين، وأثنى على من يوفقه الله للتحلي بهما، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أن نَبِي اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه)
يبين النووي أن اسم الْأَشَج هو الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ الْعَصَرِيُّ، على الصحيح المشهور الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون، والحلم هو العقل، والأناة هي التثبت وَتَرْكُ الْعَجَلَةِ.(صحيح مسلم بشرح النووي:1/189)
وأناة الأشج كانت في تريثه بعد الوصول إلى المدينة، حتى جمع الرحال، وعقل الإبل، ولبس أحسن الثياب، وحلمه ورجاحة عقله تمثلت في مناقشة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث اعتذر عن أن يبايع عن قومه.(فتح المنعم شرح صحيح مسلم:1/65)
الرفق في الأمر كله
الرفق محمود، بخلاف العنف، وهذا مؤكد في ديننا الحنيف، فعَنْ رَسُول اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)(صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق)
يبين ابن حجر أن الرِّفْقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، هُوَ لِينُ الْجَانِبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْأَخْذِ بِالْأَسْهَلِ، وَهُوَ ضد العنف.(فتح الباري لابن حجر:10/449)
جاء في مرقاة المفاتيح: أن معنى (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ) أَيْ: لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، يُرِيدُ بِهِمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ، فَيُسَامِحُهُمْ، وَلَا يُكَلِّفُ فَوْقَ وُسْعِهِمْ، أَوْ يُحِبُّ أَنْ يَرْفُقَ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (يُحِبُّ الرِّفْقَ) أَيْ: يَرْضَى بِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ (وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ) أَيِ: الْمَثُوبَاتِ وَالْمَآرِبَ، أَوْ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَطَالِبِ (مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ): (وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) أَيْ: سُوءِ الرِّفْقِ، وَهُوَ الْعُنْفُ، فَفِي الْكَلَامِ زِيَادَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَأْكِيدٌ لِلْحُكْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَا سِوَى الرِّفْقِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَسَنَةِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الرَّفِيقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ أَيْضًا عَلَى قَصْدِ الِاسْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ عَنْهُ تَمْهِيدًا لِلْحُكْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَرْفُقُ عِبَادَهَ فِي أُمُورِهِمْ، فَيُعْطِيهِمْ بِالرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِيهِمْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: (وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) بَعْدَ قَوْلِهِ: (مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ) لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرِّفْقَ أَنْجَحُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا، وَأَنْفَعُهَا بِأَسْرِهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا طَالِبَ الرِّزْقِ الْهَنِيِّ بِقُوَّةٍ ... هَيْهَاتَ أَنْتَ بِبَاطِلٍ مَشْغُوفُ
أَكَلَ الْعُقَابُ بِقُوَّةٍ جِيفَ الْفَلَا ... وَرَعَى الذُّبَابُ الشَّهْدَ وَهُوَ ضَعِيفُ(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:8/3170)
كظم الغيظ
يلزم للحلم والأناة الصبر والتروي وكظم الغيظ، والعفو عند المقدرة، وقد أشاد الله بالصابرين على زلات الناس وأخطائهم معهم أو ضدهم، فقال جل في علاه: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشورى:43).
ويفسر الماتريدي هذه الآية الكريمة، فيبين أن من صبر على الأذى والمظلمة، وعفا عنها وتجاوز؛ فإن ذلك من تحقيق الأمور وإحكامها.(تفسير الماتريدي=تأويلات أهل السنة:9/135)
ويبين الماوردي أن قوله عز وجل: {وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: صبر على الأذى، وغفر للمؤذي. الثاني: صبر عن المعاصي، وستر المساوئ. ويحتمل قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وجهين: أحدهما: لمن عزائم الله التي أمر بها. الثاني: لمن عزائم الصواب التي وفق لها.(تفسير الماوردي=النكت والعيون5/209)
ويبين الرازي أن مَعْنَى {وَلَمَنْ صَبَرَ} بِأَنْ لَا يَقْتَصَّ، وَ{غَفَرَ} وَتَجَاوَزَ، فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} يَعْنِي أَنَّ عَزْمَهُ عَلَى تَرْكِ الِانْتِصَارِ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ الْجَيِّدَةِ، وَحُذِفَ الرَّاجِعُ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ.(تفسير الرازي=مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير:27/607)
وأثنى الله على كاظمي الغيظ والعافين عن الناس، فقال عز وجل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(آل عمران:134)
يقال: كظم غيظه، إذا سكت عليه، ولم يظهره بقول أو فعل. والمعنى: الكافين غضبهم عن إمضائه، يردون غيظهم في أجوافهم، ويصبرون فلا يظهرون.(تفسير الوسيط للواحدي: 1/492-493)
ويبين البغوي معنى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} بأنهم الْجَارِعِينَ الْغَيْظَ عِنْدَ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنْهُ، وَالْكَظْمُ: حَبْسُ الشَّيْءِ عند امتلائه، أوَ كَظْمُ الْغَيْظِ أَنْ يَمْتَلِئَ غَيْظًا، فَيَرُدُّهُ فِي جَوْفِهِ وَلَا يُظْهِرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}(سُورَةُ غَافِر:18) (تفسير البغوي:2/105)
النهي عن الغضب والتحذير من عواقبه
ضرب سبحانه بنبيه يونس مثلاً للاعتبار والاتعاظ، لما ذهب مغاضباً والتقمه الحوت، فقال تعالى بشأنه: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء:87)
جاء في زاد المسير أن العلماء اختلفوا في مغاضبة يونس، عليه السلام، لمن كانت؟ على قولين: أحدهما: أنه غضب على قومه، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني: أنه خرج مغاضباً لربِّه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعروة، وقال: المعنى: مغاضباً من أجل ربِّه، وإِنما غضب لأجل تمرُّدهم وعصيانهم. وقال ابن قتيبة: كان مَغِيظاً عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم، مشتهياً أن ينزل العذاب لهم، فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه.(زاد المسير في علم التفسير:3/209)
فالغضب يجر في أحيان كثيرة إلى ويلات ومصائب وأضرار تصيب الغضبان ومن حوله، لهذا حذر الإسلام من الغضب، كما جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب)
ونبه عليه الصلاة والسلام، إلى أن التحكم بالانفعالات عند الغضب يعنى قوة للمتحكم، تميزه عن صاحب العضلات والقوة البدنية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ)(صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب)
وأشار القرآن الكريم إلى اختلاف حال موسى، عليه السلام، لما هدأ من الغضب عن حاله وهو غضبان، فقال عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(الأعراف:154)
قوله تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أي: سكن وذهبت حدته وفورته.(التفسير الوسيط للواحدي:2/414)
كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، والمعنى: ولما طفئ غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها.(تفسير الزمخشري=الكشاف عن غوامض التفسير:2/163)
وبهذا نختم الوقوف عند بعض قضايا الحلم واللطف والرفق، المستوحاة من الهدي القرآني، ومن الأحاديث النبوية، والسيرة العطرة، وفي تلك القضيا تم التركيز على حوادث تم الرد فيها بحلم ورفق وأناة على استغضاب بعض الناس النبي محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
3 ربيع أول 1446هـ