عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فيه إلا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فيقول أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى...}(الليل: 5-10)
تعرضت الحلقة السابقة لمسألة صَلَاةِ الْإِمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ، مع بيان أن المراد من الصلاة الدعاء؛ وإنما عطف لفظ الدعاء على الصلاة لئلا يفهم أن الدعاء بلفظ الصلاة متعين، وصلاة النبي، صلى الله عليه وسلم، على مقدم الصدقة كانت انصياعاً لأمر الله عز وجل، بأن يأخذ من المؤمنين صدقة يطهرهم بها، ويزكيهم، وأن يصلي عليهم، وفي الصدقة المأمور بأخذها هنا، قولان: أحدهما التطوع، والآخر الزكاة. وقوله: (صلِّ على آل أبي أوفى) يريد به أبا أوفى، وصدقة الفطر أوجبها الرسول، صلى الله عليه وسلم، في شهر رمضان، على أرباب العائلات عن أنفسهم، وعمن يعولون من آباء وأمهات، وأزواج، وأبناء، وبنات، وخدم، وتخرج من أصناف غذائية محددة في الأحاديث الصحيحة، وتبنت دار الإفتاء الفلسطينية جواز إخراجها بالقيمة، وينبغي أن تخرج قبل الانتهاء من صلاة عيد الفطر، للفقراء والمساكين، ممن ليس لهم حق النفقة على مخرجها.
زكاة المال
الزكاة تعني في اللغة الطهارة والنماء، وهي ركن من أركان الإسلام، فرضها الله على من يملك نصابها بشروط محددة، تخص المال وصاحبه، ومن تخرج إليه، والله تعالى أثنى على من يخرج من ماله الحق المعلوم، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ معْلُومٌ} (المعارج: 24)
يقول صاحب أضواء البيان: الحق المعلوم لا يكون إلا في المفروض، وهو قول أكثر المفسرين، ولا يمنع أن السورة مكية، فقد يكون أصل المشروعية بمكة، ويأتي التفصيل بالمدينة، وهو في السنة الثانية من الهجرة، والحق المعلوم؛ أي القدر المخرج، ولم تأت آية تفصل هذا الإجمال إلا آية: {وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الحشر: 7)، وقد بينت السنة هذا الإجمال. (أضواء البيان، 8/270)
والزكاة تجب في الذهب، والفضة، والنقود المالية، والأنعام، والزروع والثمار، وعروض التجارة، وذلك بشروط وضوابط مفصلة في مراجع الفقه ومصادره والكتب ذات العلاقة، والمجال هنا لا يتسع للخوض فيها.
وحصر سبحانه مصارف الزكاة بثمانية أصناف، شملهم قوله جل شأنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:60)
وعيد المتخلفين عن أداء الزكاة
توعد سبحانه الذين يتخلفون عن أداء الزكاة بعذاب أليم يوم القيامة، ففي صحيح البخاري بَاب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {...وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34-35)
وفيه عن خَالِدِ بن أَسْلَمَ، قال: (خَرَجْنَا مع عبد اللَّهِ بن عُمَرَ، رضي الله عنهما، فقال أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عن قَوْلِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللَّهِ} قال ابن عُمَرَ، رضي الله عنهما: من كَنَزَهَا فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ له، إنما كان هذا قبل أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فلما أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا الله طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ). (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز)
وعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (من آتَاهُ الله مَالًا فلم يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ له يوم الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ له زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يوم الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بلهزمتيه - يَعْنِي بشدقيه- ثُمَّ يقول: أنا مَالُكَ أنا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا: {ولا يَحْسبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ... }) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة)
النفقات والصدقات غير المحددة
الإنفاق في سبيل الله منه الواجب كالزكاة، وصدقة الفطر، ونفقة المرء على قضاء حاجات من يعول، ومنه التطوع، الذي لا ينحصر بوقت ولا مكان محددين، وكلما كانت حاجة المنفق عليه ملحة، كان جزاء النفقة أعظم، وفي حديث أبي هريرة أعلاه، تشجيع للإنفاق في سبيل الله بأنواعه كلها.
جاء في عمدة القاري، أن قوله: (ما من يوم) يعني ليس من يوم، وقوله: (يصبح العباد فيه) صفة يوم، وقوله: (إلاَّ ملكان) يعني ليس يوم موصوف بهذا الوصف، ينزل فيه أحد إلاَّ ملكان، يقولان: كيت وكيت، فحذف المستثنى منه، ودل عليه بوصف الملكان ينزلان، وقوله: (خلفاً) بفتح اللام؛ أي عوضاً، يقال: أخلف الله عليك خلفاً؛ أي عوضاً؛ أي أبدلك بما ذهب منك، قوله: (أعطِ ممسكا تلفاً) التعبير بالعطية هنا من قبيل المشاكلة؛ لأن التلف ليس بعطية.
ومما يستفاد من هذا الحديث أنه موافق لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ...} (سبأ:39)، ولقوله: (يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) (صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف)، وهذا يعم الواجب والمندوب، وفيه أن الممسك يستحق تلف ماله، ويراد به الإمساك عن الواجبات دون المندوبات، فإنه قد لا يستحق هذا الدعاء، اللهم إلاَّ أن يغلب عليه البخل بها، وإن قلت في نفسها، كالحبة واللقمة ونحوهم، وفيه الحض على الإنفاق في الواجبات؛ كالنفقة على الأهل، وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع والفرض. (عمدة القاري، 8/307)
وعن أَبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (مَثَلُ البَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ من حَدِيدٍ من ثُدِيِّهِمَا إلى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فلا يُنْفِقُ إلا سَبَغَتْ، أو وَفَرَتْ على جِلْدِهِ، حتى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شيئاً، إلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا ولا تَتَّسِعُ) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل)
وفقنا الله في أمرنا كله، للعمل بكتابه وسنة نبيه محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
5 شوال 1443هـ