عن ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُم الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3])
أشارت الحلقة السابقة إلى معنى حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، والراجح أنه يعني يكفينا الله، ونعم الكافي، وبينت أن الشدائد تستدعي تفعيل اليقين بحَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وأن الله ينصر المتوكلين عليه سبحانه، فأنجى الله خليله إبراهيم،عليه السلام، من النار بفعل خارق للعادة، إذ أمر سبحانه النار أن تتحول خاصية الإحراق فيها إلى النقيض، فصارت برداً وسلاماً عليه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لجأ لقول:{حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} لما اشتد الكيد ضده ودينه وأصحابه، وأرجف المخذلون بأن الأعداء يحشدون للانقضاض على المسلمين، فسأل عليه الصلاة والسلام، ربه أن يكفيه شرهم، فكفاه.
المتوكلون على الله يدخلون الجنة بغير حساب
حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، المثبت نصه أعلاه يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن دخول أصناف من الناس الجنة بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، قال أبو الحسن القابسي يريد بالاسترقاء الذي كانوا يسترقون به في الجاهلية، وأما الاسترقاء بكتاب الله، فقد فعله صلى الله عليه وسلم وأمر به، وليس بمخرج عن التوكل، وقوله: (ولا يتطيرون) أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، كما كانت عادتهم قبل الإسلام، والطيرة ما يكون في الشر، والفأل ما يكون في الخير، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل، والتوكل في قوله تعالى : (وعلى ربهم يتوكلون) تفويض الأمر إلى الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب. (عمدة القاري: 21/245)
ومنزلة الذين على ربهم يتوكلون لا على غيره، يبلغون بها درجة الخواص المعرضين عن الأسباب الواقفين مع المسبب. (التيسير بشرح الجامع الصغير: 2/54)
وبالنسبة للعدد المذكور، قيل هم أكثر من هذا العدد، والله أعلم بذلك، مع احتمال أن يراد بالسبعين الكثير، وقال بعضهم إن العدد المذكور على ظاهره. (عمدة القاري: 23/117)
سبق بها عكاشة
حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، سالف الذكر، ورد عنه برواية صحيحة أخرى أخرجها الإمام البخاري في صحيحه، وتضمنت تفاصيل وإضافات أخرى، فعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فأخذ النبي يَمُرُّ معه الْأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ معه النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ معه الْعَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ معه الْخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فإذا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قلت: يا جِبْرِيلُ، هَؤُلَاءِ أُمَّتِي؟ قال: لَا، وَلَكِن انْظُرْ إلى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ، فإذا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قال: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ، لَا حِسَابَ عليهم، ولا عَذَابَ. قلت: وَلِمَ؟ قال: كَانُوا لَا يَكْتَوُونَ، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ إليه عُكَّاشَةُ بن مِحْصَنٍ، فقال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي منهم، قال: اللهم اجْعَلْهُ منهم. ثُمَّ قام إليه رَجُلٌ آخَرُ، قال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي منهم، قال: سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ). (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب)
قوله: (ولا يكتوون) يعني لا يعتقدون أن الشفاء من الكي، كما كان عليه اعتقاد أهل الجاهلية.
وقوله: (سبقك بها عكاشة) أي في الفضل إلى منزلة أصحاب هذه الأوصاف الأربعة، وقيل يحتمل أن يكون سبقك عكاشة بوحي أنه يجاب فيه، ولم يحصل ذلك للآخر. (عمدة القاري: 21/245)
من يتوكل على الله فهو حسبه
يُطمئن الله المتوكلين عليه سبحانه حق التوكل، بأنه يكفيهم، ويحقق لهم الخير، ويصرف عنهم الشر، مصداقاً لقوله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. (الطلاق:2-3)
معنى قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي كافيه، بحيث لا يحتاج معه إلى غيره، وقوله: {إن الله بالغ أمره} أي يبلغ ما يريد، ولا يعجزه شيء، هذا حض على التوكل، وتأكيد له؛ لأن العبد إذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله، توكل عليه وحده، ولم يعول على سواه، ومعنى {قدراً} في قوله سبحانه: {قد جعل الله لكل شئ قدراً} أي مقداراً معلوماً، ووقتاً محدوداً. (التسهيل لعلوم التنزيل: 4/127)
ويستند الرازي إلى قوله سبحانه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لقوله: واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات، كفاه الله تعالى كل الملمات. (التفسير الكبير: 17/117)
جاء في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أن هذه الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب الكافي المرضي، وقال ابن مسعود: هذه أكثر الآيات حضاً على التفويض، وروي أن رجلاً قال لعمر: ولني مما ولاك الله، فقال له عمر: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قال: فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن. فتعلم الرجل رجاء الولاية، فلما حفظ كثيراً من القرآن تخلف عن عمر، فلقيه يوماً، فقال له عمر: ما أبطأ بك؟ قال له: تعلمت القرآن فأغناني الله تعالى عن عمر وعن بابه، ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة. وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} بيان وحض على التوكل، أي لا بد من نفوذ أمر الله، توكلت أيها المرء، أو لم تتوكل، قاله مسروق، فإن توكلت كفاك، وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 5/324)
فهذه وقفة أخرى عند قول الله: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} المثبت في الذكر الحكيم، سائلين الله العلي القدير أن ييسر الوقوف عند مزيد من القضايا ذات الصلة بهذا القول الإيماني، الذي استحضر ذكره خليل الله إبراهيم، عليه السلام، ونبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
3 ربيع الآخر 1444هـ