يقول الله تعالى في معرض الإخبار عن كفايته نبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 36)
تعرضت الحلقة السابقة إلى مسألة دخول المتوكلين على الله الجنة بغير حساب، حسب الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما، ولما أثنى الرسول، صلى الله عليه وسلم، على الذين كَانُوا لَا يَكْتَوُونَ، ولا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، قَامَ إليه عُكَّاشَةُ بن مِحْصَنٍ، فقال: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي منهم، قال: اللهم اجْعَلْهُ منهم، ثم قال للذي طلب أن يدعو له ليكون منهم: سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ)، ويُطمئن الله المتوكلين عليه سبحانه حق التوكل، بأنه يكفيهم، ويحقق لهم الخير، ويصرف عنهم الشر، ومعنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه، بحيث لا يحتاج معه إلى غيره، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي يبلغ ما يريد، ولا يعجزه شيء، وهذا حض على التوكل، وتأكيد له؛ ويستند الرازي إلى قوله سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لقوله: واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات، كفاه الله تعالى كل الملمات، وجاء في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أن هذه الآيات كلها عظة لجميع الناس، وقال ابن مسعود: هذه أكثر الآيات حضاً على التفويض.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟
الآية الكريمة السادسة والثلاثون من سورة الزمر، والمثبت نصها أعلاه، استهلها الله بسؤال تقريري، دل على توليه سبحانه كفاية رسوله، صلى الله عليه وسلم، وحمايته والذود عنه، فقال عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟ وفي هذا تقوية لقلب محمد، صلى الله عليه وسلم، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه. (التسهيل لعلوم التنزيل: 3/195)
يقول الرازي: جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وذكره بلفظ الاستفهام، والمراد تقرير ذلك في النفوس، والأمر كذلك؛ لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، فهو تعالى عالم حاجات العباد، وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات، وهو ليس بخيلاً ولا محتاجاً. (التفسير الكبير: 26/244)
وعن عملية التخويف التي يقوم بها أهل الباطل للمؤمنين، يقول عز وجل في الآية الكريمة أعلاه من سورة الزمر: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فخوفوه بأوثانهم، يقولون تفعل بك كذا وتفعل، أو خوفوه من أنفسهم بالتهديد والوعيد. (تفسير العز بن عبد السلام: 3/100)
وفي قوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ} تهكم بهم؛ لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر، ونظير هذا التخويف قول قوم هود له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 54) (تفسير البحر المحيط: 7/413) ورد عليهم هود، عليه السلام، وقتها برد مفعم باليقين والإيمان: {... قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54)
تفويض أمور العباد لله
الاحتساب المتضمن في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) يتقاطع مع معناه التفويض، المتضمن في مثل قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) وقد وردت هذه المقولة الإيمانية خلال محاورة فرعون وزبانيته، الذين بلغوا في الجحود عتياً، فكان تفويض الأمر إلى الله من قبل المؤمنين مترافقاً مع إقامة الحجة على الجاحدين المنكرين، ووعيدهم بالندم الذي سينتابهم في العاقبة.
ولم يتأخر نصر الله عن المؤمنين، الذي تزامن مع إلحاق العذاب بآل فرعون، مصداقاً لقوله عز وجل: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. (غافر: 45-46)
ولم تكن هذه الحالة الوحيدة التي لقي فيها دعاء المؤمنين استجابة فورية من الله جل في علاه، فنوح عليه السلام لما دعا الله قائلاً: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (القمر: 10) جاءته الاستجابة الربانية على الفور، بدليل حرف (الفاء) الذي استهل به الفعل الرباني المعبر عن الاستجابة لنوح عليه السلام {فَفَتَحْنَا} ومعلوم لغوياً أن (الفاء) حرف عطف يفيد الترتيب والتعقيب، فقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 9-17)
ومن هذه المنطلقات الإيمانية نتوجه لله متضرعين، قائلين: إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، لمن تكلنا، إلى عبيد يتجهموننا؟! أو إلى أعداء ملكتهم أمورنا؟! إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك من أن ينزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى - أي نستَرضِيكَ حتَّى تَرضَى- ولا حول ولا قوة إلا بك.
وبهذه الوقفة نختم في هذه المرحلة الحديث عن أبعاد إيمانية ذات صلة بقوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} الذي استحضر ذكره خليل الله إبراهيم، عليه السلام، ونبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
10 ربيع الآخر 1444هـ