.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

وقوله: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ»

==========================================================

عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ: -حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ) (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر)
شرح النووي لبعض مفردات وعبارات هذا الحديث
يبين الإمام النووي أن قَوْلهُ: (فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ) هُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ، ضَمِيرُ جَمْعٍ، وَهُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الطُّفَيْلِ وَالرَّجُلِ الْمَذْكُورِ، وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَمَعْنَاهُ كَرِهُوا الْمُقَامَ بِهَا لِضَجَرٍ، وَنَوْعٍ مِنْ سَقَمٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: اجْتَوَيْتُ الْبَلَدَ إِذَا كَرِهْتُ الْمَقَامَ بِهِ، وَإِنْ كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَوَى، وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ الْجَوْفَ.
وَقَوْلُهُ: (فَأَخَذَ مَشَاقِصَ) هِيَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهِيَ جَمْعُ مِشْقَصٍ، بِكَسْرِ المِيمِ، وَفَتْحِ الْقَافِ، قال الخليل وابن فَارِسٍ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ سَهْمٌ فِيهِ نَصْلٌ عَرِيضٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: سَهْمٌ طَوِيلٌ، لَيْسَ بِالْعَرِيضِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِشْقَصُ مَا طَالَ وَعَرُضَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ هُنَا، لِقَوْلِهِ: قَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْعَرِيضِ، وَأَمَّا (الْبَرَاجِمُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ، فَهِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ، وَاحِدَتهَا برجمة.
وقوله: (فَشَخَبَتْ يَدَاهُ) هُوَ بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْخَاءِ، أَيْ سَالَ دَمُهُمَا، وَقِيلَ سَالَ بِقُوَّة. (صحيح مسلم بشرح النووي، 2 /131)

المعنى العام
يذكر د. موسى لاشين شاهين في كتابه: "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" أن الطفيل بن عمرو الدوسي قدم من وطنه باليمن إلى مكة، وكان من وجهاء قومه، فخافت قريش أن يتصل برسول الله، صلىالله عليه وسلم فيسلم، فحذرته منه، بأنه يفرق بين المرء وزوجه، وبأنه ساحر... إلخ، فدفعه حب الاستطلاع إلى القرب من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حيث لا يشعر، فسمع منه بعض آيات القرآن الكريم، فوقعت في قلبه، فلما انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بيته أدركه الطفيل، فطلب منه أن يعرض عليه الإسلام، فأسلم ورجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام، فكان ممن أجابه أبو هريرة، رضي الله عنه، وجماعة من أهله، وبعد مدة رجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأى إيذاء قريش له وللمسلمين، فعرض عليه أن يهاجر إلى اليمن، ويقيم في حصن دوس المنيع، وفي حماية جماعة من قوم الطفيل المسلمين، فاعتذر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الهجرة، فقد كان ربه قد أراه أرضاً طيبة، وأعلمه أنها أرض الهجرة، ولم يكن قد أذن له فيها، فعاد الطفيل إلى أهله، فلما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة، وبعد بدر وأحد والخندق، وفي عمرة القضاء هاجر الطفيل بن عمرو، ومعه رجل من قومه، واستقر بهم المقام في المدينة، لكن هواءها لم يناسبهما، فأصابتهما بعض الأمراض، واشتد المرض بصاحبه، وبرحت به الآلام، فلم يطق عليها صبراً، فأخذ سهماً عريضاً حاداً كالسكين، وقطع به أصابعه، ففجر شرايينه، فسال دمه بغزارة، ولم ينقطع حتى مات، فرآه الطفيل في المنام، حسن الهيئة، وقد كان يعلم أنه مات عاصياً بانتحاره، فتعجب من حسن هيئته، فقال له: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي خطاياي بفضل هجرتي إلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، قال له: فما بالك تغطي يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فبقي الأذى الذي فعلته، بقي في يدي. فقص الطفيل رؤياه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعلم منه أنها حق، فسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ربه أن تشمل المغفرة والرحمة اليدين، كما شملت الرجل كله، فقال: (اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ). (فتح المنعم شرح صحيح مسلم، 1 /380، بتصرف)

مباحث لغوية وشرعية في ضوء الحديث الشريف
د. موسى لاشين شاهين في كتابه: "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" وقف عند بعض المباحث اللغوية والشرعية في ضوء حديث جابر، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، والذي يدور حول حادثة كان أحد عناصرها الصحابي الجليل الطُّفَيْل بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، فبين د. شاهين أن الحصن في قول الطفيل: (هل لك في حصن حصين) هو القصر المسور بسور خاص؛ لحماية من به من الأعداء، والوصف بحصين للتأكيد، فعيل بمعنى اسم الفاعل، أي محصن من بداخله.
(ومنعة) بفتح الميم، وبفتح النون وإسكانها لغتان، والفتح أفصح، وهي: العز والامتناع ممن يريده، فهي بمعنى الحصن الحصين، والعطف تفسيري.
وقيل: المنعة جمع مانع، كظلمة جمع ظالم، أي جماعة يمنعونك ممن يقصدك بمكروه.
(قال: حصن كان لدوس في الجاهلية) أي قال الطفيل ذلك تكميلاً لعرضه و(حصن) خبر لمبتدأ محذوف. أي ما أعرضه عليك حصن كان لدوس قبيلتي.
(فأبى ذلك) أي لم يقبل العرض.
(للذي ذخر الله للأنصار) اللام في (للذي) لام العاقبة. أي رفض العرض لتكون العاقبة؛ الفضل والشرف الذي ادخره الله لأهل المدينة (الأنصار).
(هاجر إليه الطفيل) كانت هجرة الطفيل في عمرة القضية، وقيل: قدم مع أبي هريرة في خيبر.
(وهاجر معه رجل من قومه) لم يتم الوقوف على اسمه، ولعل الرواة أغفلوا اسمه (كدأبهم) للستر على أصحاب المعاصي.
المتصور أنه شخبت يد واحدة قطع براجمها باليد الأخرى، والتثنية بناء على أنه أمسك اليد المقطوعة باليد السليمة القاطعة، فسال الدم منهما، واحدة بالفعل، وواحدة في الصورة، أو بناء على أن اليدين سال دمهما وخرج عن طريق يد واحدة، وهذا احتمال بعيد، كاحتمال أن يكون قد قطع بعضاً من براجم يده، ثم أمسك المشقص بما بقي فيها من أصابع فقطع براجم الأخرى، فشخبت اليدان.
(ورآه مغطيا يديه) تثنية (يديه) هنا وفي قوله: (مغطيا يديك) وقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (اللهم وليديه فاغفر) ربما أيدت التصور الأخير: وأنه قطع بعض براجم كل من اليدين. فدعوى أن قبح اليدين وأذاهما باعتبار أن إحداهما قاطعة، فأوخذت وشوهت، والأخرى مقطوعة مشوهة لم تصلح.
(فقصها الطفيل) أي قص الرؤيا.
(اللهم وليديه فاغفر) الواو عاطفة على محذوف. أي اللهم فاغفر له وليديه.
فإن قيل: كيف يحتج برؤيا غير النبي، صلى الله عليه وسلم، على حكم شرعي؟
وأجيب: إن الاحتجاج ليس بالرؤيا، وإنما بتقرير النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد أقر صلى الله عليه وسلم، ما جاء فيها، وبنى عليه طلبه المغفرة ليديه.
وفي الحديث منقبة عظيمة، وفضل كبير للطفيل بن عمرو في حرصه على سلامة الرسول، صلى الله عليه وسلم، ورغبته في حمايته والتشرف به في دياره، وفيه حرص الصاحب على صاحبه وشفقته عليه، وشفقة الرسول، صلى الله عليه وسلم بأمته، والله أعلم. (فتح المنعم شرح صحيح مسلم، 1 /380-383، بتصرف)
تنويه
يبين الإمام النووي أن في هذا الْحَدِيثِ حُجَّة لِقَاعِدَةٍ عظيمة لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ شَرْحٌ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ الْمُوهِمُ ظَاهِرُهَا تَخْلِيدَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ عُقُوبَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ هَذَا عُوقِبَ فِي يَدَيْهِ فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَضُرُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (صحيح مسلم بشرح النووي، 2 /131-132، بتصرف)
ويجدر التنبيه في هذا المقام إلى الوعيد الثابت في الأحاديث الصحيحة لمن يقدم على الانتحار بإرادته واختياره، وهو يدرك الفعل الآثم الذي أقدم عليه، حتى لا يظن أحد أن هناك تهاوناً في هذه المسألة، لكن الله العليم الحكيم، الغفور الرحيم، له الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله، وهو أدرى بأحوال خلقه، وليس لأحد منهم صلاحية القطع بدخول الجنة أو النار، أو قبول التوبة أو رفضها، فتلك أمور غيبية ينبغي أن تترك لله وحده، وعلى المسلمين وخاصة العلماء منهم أن يتعاملوا مع الأحداث التي تقع في أوساطهم من هذا القبيل بحذر وتروٍّ وحكمة.
سائلين الله العلي القدير أن يكون في التذكير بهذا الحديث الشريف، ومعانية اللغوية والشرعية منافع للمتأملين، والباحثين عن توجيهات شرعية سليمة لظروف تستدعي التروي دون تجني، تجاه أناس قد ظلموا أنفسهم بارتكاب آثام وخطايا، لترك أمرهم إلى بارئهم ما كان لذلك مخرج ممكن، بالاستناد إلى دليل شرعي من كتاب ربنا، أو سنة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
24 ربيع أول 1446هـ

تاريخ النشر 2024-09-27
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس