عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْج النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: (اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ - رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ)(صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه)
يتضمن هذا الحديث الشريف تحذيراً واضحاً من النبي، صلى الله عليه وسلم، من ويلات الحساب والعقاب يوم القيامة، وحتى لا يقع المرء في مصير صعب ذاك اليوم، عليه أن يتقي الله في السراء والضراء، وفي أحواله كلها، يقول الإمام العيني: أكد التحذير من النَّار بأقوى أَسبَابهَا، وَهِي الْفِتَن، والطغيان والبطر عِنْد فتح الخزائن.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:22/223)
«سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ»
تخبر أم سلمة، رضي الله عنها، عن حدث وقع للنبي، صلى الله عليها وسلم، حين استيقظ ليلة من النوم فزعاً، يَقُولُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ)
(فزعًا) بفتح الفاء، وكسر الزاي، أي خائفًا حال كونه (يقول): (سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن)(إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري:10/175)
وقوله، صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله) تعبير عن التعجب، نصب على المصدر (ماذا أنزل الليلة؟!) كالتقرير والبيان لسابقه؛ لأن (ما) استفهامية، متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم، و(الليلة) ظرف للإنزال. أي: ماذا أنزل في الليلة.(إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري:2/311)
وقَوْله: (من الخزائن) أُرِيد بهَا الرَّحْمَة، عبر عَن الرَّحْمَة بالخزائن. كَقَوْلِه تعالى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} (ص:9).
وقَوْله: (من الْفِتَن) أَي: الْعَذَاب، عبر عَن الْعَذَاب بالفتن؛ لِأَنَّهَا أَسبَاب مؤدية إِلَى الْعَذَاب، أَو هُوَ من المعجزات لما وَقع من الْفِتَن بعد ذَلِك.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:22/223)
(من الفتنة) بالإفراد، وقيل: من الفتن، وقيل بأن المراد: ماذا أنزل من مقدّمات الفتن.(إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري:2/311)
«أيقظوا صواحب الحُجَر»
تابع الرسول، صلى الله عليه وسلم، إشارته إلى ما أنزل الله من الخزائن، وما أنزل من الفتن، بقوله: (أيقظوا صواحب الحُجَر) يعنى أزواجه، للصلاة والاستعاذة مما نزل.
قَوْله: (الْحجر) جمع حجرَة.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:22/223)
فقد حرص، صلى الله عليه وسلم، على إيقاظ نسائه من نومهن ليصلين قيام الليل تقرباً لله تعالى، عسى أن ينفعهن هذا في النجاة من ويلات يوم القيامة، ويتماشى مع أمر الله للمؤمنين بأن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً، ويتماشى كذلك مع الأمر الرباني للنبي، صلى الله عليه وسلم، بأن يأمر أهله بالصلاة.
وأمر الله سبحانه النبي، صلى الله عليه وسلم، شخصياً، والمؤمنين في الدرجة الثانية- من باب التأسي- بالعمل على الطلب من الأزواج والبنات ونساء المؤمنين بارتداء الحجاب الشرعي، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(الأحزاب:59)
ونوح، عليه السلام، حرص أشد الحرص على إنجاء ولده من الغرق المحتوم، بدعوته ليركب سفينة النجاة، وسأل الله أن ينجي ابنه من العذاب كونه من أهله من ناحية النسب، ومعلوم أن الآباء ينظرون إلى أبنائهم وكأنهم أكبادهم تمشي على الأرض.
فالعاقلون المؤمنون بالدين وحقائقه المحبون لأهليهم يحرصون على تولي الإنفاق عليهم، وتوفير سبل الراحة ورغد العيش لهم، ولا يكتفون بذلك، بل يحرصون أشد الحرص على فوزهم بنعيم الآخرة، ونجاتهم من عذابها، ولا يغيب هذا الحرص حتى عن دعائهم، وعلى لسانهم يقول عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان:74)
«رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ»
قَوْله: (رب) فِيهِ لُغَات، وَفعله مَحْذُوف أَي: رب كاسية عرفتها، وَالْمرَاد، أَن اللَّاتِي تلبس رَقِيق الثِّيَاب الَّتِي لَا تمنع من إِدْرَاك لون الْبشرَة معاقبات فِي الْآخِرَة بقضية التعري، أَو إِن اللابسات للثياب النفيسة عاريات عَن الْحَسَنَات.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:22/223)
ويبين ابن بطال أن الكاسية العارية ربما عوقبت في الآخرة بالتعرية والفضيحة التي كانت تبتغي في الدنيا، ويحتمل أن تكون رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا لها المال، تكتسي به رفيع الثياب، وتكون عارية من الحسنات في الآخرة، فَنَدَبَهن إلى الصدقة، وثم حضهن على ترك السرف في الدنيا، بأن يأخذن منها بأقل الكفاية، ويتصدقن بما سوى ذلك.(شرح صحيح البخاري لابن بطال:1/190-191)
وفي مناسبة أخرى تم حث النساء على أن يتصدقن للغاية نفسها، وهي الفوز بالآخرة، والنجاة من النار، وأشير لمبرر حثهن على التصدق، فقال صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ)(صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق) وقال: (تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ)(صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة)
يبين القسطلاني أن (كاسية) من ألوان الثياب عرفتها (في الدنيا) (عارية) من أنواع الثياب (في الآخرة) وقيل: عارية من شكر المنعم، وقيل: نهى عن التبرج.(إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري:2/312)
وجاء في عمدة القاري أن الكلام هنا وَإِن صدر فِي حق أَزوَاجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ، لَا لخُصُوص السَّبَب، وَالتَّقْدِير: رب نفس كاسية.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:7/174)
فتنتا الغنى والفقر
أعلمُ الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، بما يفتح على أمته من الخزائن، وَأَن الْفِتَن مقرونة بهَا، وَلذَلِك آثر كثير من السّلف الْقلَّة على الْغنى؛ خوف فتْنَة المَال، وَاستعاذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من فتْنَة الْغنى، كَمَا استعاذ من فتْنَة الْفقر.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:7/174) وكَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالهَرَمِ، وَالمَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ...)(صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من المأثم والمغرم)
ونقل في فتح الباري عن الْكَرْمَانِي أنه قال: صَرَّحَ فِي فِتْنَةِ الْغِنَى بِذِكْرِ الشَّرِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَضَرَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَضَرَّةِ غَيْرِهِ، أَوْ تَغْلِيظًا عَلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا فَيَغْفُلُوا عَنْ مَفَاسِدِهِ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ صُورَتَهُ لَا يَكُونُ فِيهَا خَيْرٌ، بِخِلَافِ صُورَةِ الْفَقْرِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ خَيْرًا.
ودحض ابن حجر هذا الاستنتاج، وقال عنه: (وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنِ الْوَاقِعِ)، مبيناً أن الذي ظهر إليه أَنَّ لَفْظَ شَرِّ فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَرَهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ، وفي روايات بِإِسْقَاطِ (شَرّ)ِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، مؤكداً على أن التَّقْيِيدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ بِالشَّرِّ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ خَيْرٌ بِاعْتِبَارٍ، فَالتَّقْيِيدُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِالشَّرِّ يُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، سَوَاءٌ قَلَّ أَمْ كَثُرَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِتْنَةُ الْغِنَى الْحِرْصُ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَحُبُّهُ، حَتَّى يكسبه من غير حلّه، وبمنعه مِنْ وَاجِبَاتِ إِنْفَاقِهِ وَحُقُوقِهِ، وَفِتْنَةُ الْفَقْرِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ، الَّذِي لَا يَصْحَبُهُ خَيْرٌ وَلَا وَرَعٌ، حَتَّى يَتَوَرَّطَ صَاحِبُهُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، وَلَا يُبَالِي بِسَبَبِ فَاقَتِهِ عَلَى أَيِّ حَرَامٍ وَثَبَ، وَلَا فِي أَيِّ حَالَةٍ تَوَرَّطَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ فَقْرُ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَرُدُّهُ مِلْكُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى، وَلَا عَكْسِهِ.(فتح الباري:11/177)
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يسأل الله الغنى من الفقر، بقوله: (... وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ...)(صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع)
فوائد من حديث أم سلمة المثبت نصه أعلاه
قال المهلب: فيه دليل أن الفتن تكون في المال، وغيره؛ لقوله: (وماذا أُنزل من الفتن)، (وماذا فتح من الخزائن)
وفيه: أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل لذكر الله وللصلاة، ولا سيما عند آية تحدث، أو مأثور رؤيا مخوفة.
وَفِيه أَن الله أعلمهُ أَنه يفتح على أمته من الخزائن، وَأَن الْفِتَن مقرونة بهَا.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري:7/174). (شرح صحيح البخاري لابن بطال:1/190-191)
وفيه الحث على صلاة الليل، وعدم الإيجاب يؤخذ من ترك إلزامهن بذلك.
وقال في شرح المشكاة: هو كالبيان لموجب استنشاط الأزواج للصلاة، أي: لا ينبغي لهن أن يتغافلن عن العبادة، ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري:2/312)
ويبين العيني أن وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث فِي بابُ: مَا كانَ النبيُّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَتَجَوَّزُ مِنَ اللِّباسِ والبُسْط، في صحيح البخاري، من حَيْثُ أَنه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،َ حذر أَهله وَالْمُؤْمِنَات جَمِيعهن من لِبَاس رَقِيق الثِّيَاب الواصفة لأجسامهن، بقوله: (كم من كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية يَوْم الْقِيَامَة)، وَفهم مِنْهُ أَن عُقُوبَة لابسة ذَلِك أَن تعرى يَوْم الْقِيَامَة.(عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 22/20)
ويفهم من هذا التحذير النبوي كذلك أنه موجه بصورة أو بأخرى إلى الناس جميعاً؛ ليحذروا يوم التلاق، فلا شيء من امتيازاتهم الدنيوية يدوم، إلا تقوى الله، فمن أرد أن يكون مكسياً بالحلل يوم القيامة فعليه بها وتبعاتها، وليحذر من أن يأتي عارياً بلا رصيد من الكسوة، يوم تتغير الأحوال، ويقف الخلق للحساب بلا محافظ ولا جاه ولا قرابة تغنيهم عما يجدون.
فهذه وقفة عند التذكير بكَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ، الذي ورد في سياق الحث على صلاة الليل، التي يؤمل أن ينجو صاحبها بها في الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، فصاحب المال والبنون والجاه في الدنيا يأتي يوم القيامة مجرداً من هذه المتعلقات، والكاسية في الدنيا قد تأتي عارية في الآخرة، سواء قصد بالكسوة والعري حقيقتهما، أم رمزيتهما، من هنا كان الحث على إيقاظ صواحب الحجرات لأداء صلاة قيام الليل التطوعية، حسب ما ورد في حديث النبي محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
1 ربيع الآخر 1446هـ