يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد:11)
وقفت الحلقة السابقة عند حديث الْبَرَاء بن عَازِبٍ، رضي الله عنهما، الذي أمر فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين ثبتوا معه من صحابته الأبرار، رضي الله عنهم، في غزوة أحد، بعد الجراح التي أصابت عناصر جيش المسلمين فيها، بأن يردوا على تباهي أبي سفيان قائد جيش المشركين وقتها، بالعزى، وهو اسم لآلهة المشركين، فأمرهم عليه الصلاة والسلام، بأن يردوا عليه بقول: (الله مَوْلَانَا ولا مولى لَكُمْ).(صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد)
وأشارت الحلقة للدرس الأعظم من مجريات غزوة أحد ونتيجتها، والذي يتلخص بضرورة أخذ العبرة من العواقب الوخيمة لتنكب درب طاعة الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فيما يأمران به، وينهيان عنه، فالويل والخسران، والفشل الذريع، والعذاب الأليم في الدارين، لمتنكبي هذا الدرب القويم.
مفهوم مبدأ: (الله مولانا ولا مولى لهم)
المبدأ نفسه المتضمن في قوله، صلى الله عليه وسلم: (الله مولانا ولا مولى لهم)، تكرره الآية الكريمة الحادية عشرة من سورة محمد، المثبت نصها أعلاه، فاللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا والْكَافِرون لَا مَوْلَى لَهُمْ، وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق بيان انتصار الله للمؤمنين، وتثبيت أقدامهم، وإضلال أعمال الكافرين، ووصمهم بالتعس وهو العثار والهلاك. (التسهيل لعلوم التنزيل، 4/47)
ويبين صاحب أضواء البيان، بأن معنى قوله تعالى: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 1)، في هذه الآية الكريمة؛ أي أبطل ثوابها، وأصله من الضلال، بمعنى الغيبة والاضمحلال، لا من الضالة، كما زعمه الزمخشري، فهو كقوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 24)، والله تعالى يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} (الفرقان:23)
ويرجح صاحب أضواء البيان هذا الرأي بقوله: وهذا هو الصواب في معنى الآية. وقيل: {أضل أعمالهم}؛ أي أبطل كيدهم الذي أرادوا أن يكيدوا به النبي، صلى الله عليه وسلم. (أضواء البيان، 7/244-245)
ومعنى إحباط أعمالهم، أي أبطالها وإذهابها. (تفسير السعدي، 1/789)
وفي سياق التفريق بين حالي المؤمنين والكافرين بالنسبة إلى موالاة الله ونصره، تلفت الآيات الكريمة الأنظار إلى عاقبة الذين كفروا من قبل، فدمر الله عليهم، وتوعد الكافرين بمصير مشابه، معللة الموقف من الحالين، بقوله عز وجل: {ذلك بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} فقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ* أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا* ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد:7-11)
يبين الرازي: أن قوله تعالى هنا: {ذلِكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى النصر، ويحتمل وجهاً آخر أغرب من حيث النقل، وأقرب من حيث العقل، وهو أن في قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد: 10)، إشارة إلى أن قوم محمد، عليه الصلاة والسلام، أُهلكوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم، وهو آلم من الهلاك بالسبب العام، قال تعالى: {ذلِكَ} أي الإهلاك والهوان بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين، والكافرون اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر، وتركوا الله، فلا ناصر لهم، ولا شك أن من ينصره الله تعالى يقدر على القتل والأسر، وإن كان له ألف ناصر، فضلاً عن أن يكون لا ناصر لهم، فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {لاَ مَوْلَى لَهُمْ} وبين قوله: {مَوْلَاهُمُ الْحَقّ} (الأنعام: 62) ؟ يقول الرازي: المولى ورد بمعنى السيد والرب والناصر، فحيث قال: {لاَ مَوْلَى لَهُم} أراد لا ناصر لهم، وحيث قال: {مَوْلَاهُمُ الْحَقّ} أي ربهم ومالكهم، وفي الكلام تباين عظيم بين الكافر والمؤمن؛ لأن المؤمن ينصره الله، وهو خير الناصرين، والكافر لا مولى له بصيغة نافية للجنس، فليس له ناصر. (التفسير الكبير، 28/44)
شواهد قرآنية لموالاة الله للمؤمنين
مسألة أن الله مولى المؤمنين وأهل الحق، أكدتها آيات قرآنية عديدة، منها قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال: 40)، وتفسير قوله تعالى: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ} أي وليكم الذي يحفظكم، ويرفع البلاء عنكم، ثم بين أنه تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وكل ما كان في حماية هذا المولى، وفي حفظه وكفايته، كان آمناً من الآفات، مصوناً عن المخوفات. (التفسير الكبير ، 15/131)
ويأتي التأكيد على طمأنة المؤمنين إلى حقيقة أن الله مولاهم، في قوله عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78)
يبين السعدي في تفسيره، بأن الله في هذه الآية الكريمة يأمر المؤمنين بأن يمتنعوا به، ويتوكلوا عليه، ولا يتكلوا على حولهم وقوتهم، فهو سبحانه مولاهم الذي يتولى أمورهم، فيدبرها بحسن تدبيره، ويصرفها على أحسن تقدير، وهو نعم المولى ونعم النصير؛ أي نعم المولى لمن تولاه، فحصل له مطلوبه، ونعم النصير لمن استنصره، فدفع عنه المكروه. (تفسير السعدي، 1/547)
راجين توفيق الله لمتابعة الحديث في الحلقة القادمة عن قول: (الله مولانا ولا مولى لهم) الصادر عن نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
24 ذو القعدة 1443هـ