.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

ووعداه لمنفس الكرب وسالك طريق التماس العلم - الحلقة الأولى

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (من نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ الله عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ ما كان الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ الله له بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ من بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلا نَزَلَتْ عليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)
كرب طلبة العلم
ظهرت نتائج التوجيهي مؤخراً، وأفواج الخريجين من الكليات والجامعات تتوالى، ولطائفة من هاتين الشريحتين من أبناء مجتمعنا أزمات اقتصادية، تحول دون تحقيق رغباتهم وأهدافهم في الالتحاق بالجامعات، ودراسة التخصصات التي يتمنون، بعد أن تخرجوا من التوجيهي، وبعض هؤلاء من المتفوقين الحاصلين على معدلات مميزة وممتازة، وفئة أخرى ملتحقون بالجامعات، وتعرقل أزماتهم المالية مواصلة الدراسة؛ لعجزهم عن تسديد الرسوم الجامعية، وتغطية النفقات اللازمة للطالب أو الطالبة، خلال تفرغهما للدراسة، ومن فئة الطلبة الجامعيين الذين يعانون بسبب أزماتهم المالية بعض الخريجين من الكليات الجامعية الذين تُحتجز شهادات تخرجهم حتى يسددوا ما عليهم من ديون مالية للجامعة أو الكلية، وفي هذا المقال نود التركيز على سبيل من سبل المساهمة في حل هذه المشكلة المجتمعية والعلمية والأخلاقية والإنسانية، فالعلم بداية يهتم به الإسلام أيما اهتمام، ويحث عليه، ويثني على أهله، الذين تنتظرهم مجتمعاتهم ليخدموها ويرتقوا بأحوالها، ويخففوا من معاناة أبنائها، على صعد مختلفة وكثيرة، ومما يلفت الانتباه والأنظار، ويشد العقول للتدبر واستخلاص الحكم والعظات، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ذكر في حديثه الشريف أعلاه طلب العلم، ومدارسة القرآن الكريم في النص المبدوء بوعد منفس الكرب عن المكروبين في الدنيا، بأن ينفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، إضافة إلى حثه على التعاون وتشجيعه عليه، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ويصف الإمام النووي هذا الحديث في قوله عنه: بأنه عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، ومعنى نفس الكربة أزالها، وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة أو نصيحة، وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين. (صحيح مسلم بشرح النووي، 17/21)، وتنفيس الكرب وإزالته، تعني تفريجه كذلك. (شرح السنة، 1/273)
ويحسن الوقوف عند ما يتيسر من هذه المعاني اللطيفة، والقيم النبيلة الرفيعة، فيما يأتي:
المكافأة بتنفيس كرب يوم القيامة
يواجه الإنسان في حياته الدنيا كُرباً، يحتاج في كثير من الأحيان والظروف لتفريجها إلى عون إخوانه من بني آدم، والكُرب بطبيعتها منوعة وكثيرة، منها الصحية، والنفسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وما إلى ذلك من الصنوف والمجالات، ومن سبل تفريج الكرب وأدواته، عون البشر الذين يمنحهم الله قدرات وإمكانات، تؤهلهم للقيام بدور المنقذ للمكروبين، فمثلاً الغني يملك قدرة وإمكانية يساعد بها مكروباً اقتصادياً، كالغارم الذي أرهقت كاهله الديون المستحقة للعباد، ويعجز عن سدادها، فإذا قام بهذه المهمة التي تكون في بعض الأموال فرضاً شرعياً، كحال المزكي لماله لمستحقي الزكاة، ومنهم الغارمون، وطالب العلم الذي يعطله الفقر عن متابعة دراسته، أو الحصول على شهادة تخرجه، هو من المكروبين الذين يستحقون عوناً من الموسرين، والرسول، صلى الله عليه وسلم، وعد في حديثه الشريف الصحيح أعلاه من ينفس عن مؤمن كُربة من كُرب الدنيا، بأن ينفس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، وكلما كانت الحاجة إلى هذا التنفيس أعظم، كان جزاء التنفيس في الآخرة أزخم، والله تعالى يقول: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:110) ويقول سبحانه: {...وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل:20)
المساهمة بالمتاح والممكن
تختلف قدرات الناس تجاه تنفيس كُروب المعسرين، فبعض الناس يملكون القناطير المقنطرة، وبعضهم ليس لديه إلا القليل من المال، وخلال تشجيعه، صلى الله عليه وسلم، على الإنفاق في سبيل الله، لم يقصر هذا التشجيع على طائفة من الناس دون سواها، بل شجع أصحاب الإمكانات المحدودة على الإنفاق، ليقوموا بدورهم تجاهه ضمن وسعهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة) وفي رواية عند مسلم، عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ، قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ من النَّارِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ) (صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار)
ومعنى: (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) لا تحقروا شيئاً من المعروف، ولو كان بشق تمرة؛ أي بنصفها. (عمدة القاري، 8/274)
وعن عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قالت: (دَخَلَت امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لها تَسْأَلُ، فلم تَجِدْ عِنْدِي شيئاً غير تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بين ابْنَتَيْهَا، ولم تَأْكُلْ منها، ثُمَّ قَامَتْ، فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النبي، صلى الله عليه وسلم، عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: من ابْتُلِيَ من هذه الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، كُنَّ له سِتْرًا من النَّارِ) (صحيح البخاري ، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة)
فإذا كان هذا الوعد لمنفق شق التمرة، مع ما تعنيه هذه الرمزية من دلالات تشجيعية على المبادرة والمسارعة للإنفاق من الموجود، وكما يقال الجود من الموجود، فإن الذين ينفقون أكثر من شق التمرة ممن يملكون المال الوافر مطالبون بالبذل والإنفاق في وجوه الخير على وجه الاستثمار للآخرة، وما أحوج الناس لاتقاء النار، إضافة لنيل الدرجات والمنازل الكريمة عند من بيده ملكوت السماوات والأرض، لا إله إلا هو سبحانه.
سائلين الله أن يفرج كروب دنيانا وآخرتنا، وأن ييسر لنا متابعة الوقوف عند مزيد من معاني ودلالات الوعد بتنفيس كرب عباده يوم القيامة، الذين بادروا إلى العمل على تنفيس كروب المكروبين في الدنيا، والوعد بجزاء سالكي طريق التماس العلم حسب ما جاء في حديث النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
17 محرم 1445هـ

تاريخ النشر 2023-08-04
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس