.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

ووعداه لمنفس الكرب وسالك طريق التماس العلم - الحلقة الثالثة والأخيرة

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا من ثَلَاثَةٍ: إلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (صحيح مسلم، كتاب الوصية، بَابُ مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الثَّوَابِ بَعْدَ وَفَاتِهِ)
تعرضت الحلقة السابقة لمقدمات التجاوز عن المعسرين ومخرجاته، على غرار وعد منفس كرب المكروبين في الدنيا بأن ينفس الله كربه في الآخرة، والذي يتجاوز عن المعسرين بالعفو عنهم، يتجاوز الله عن ذنوبه يوم القيامة، ففي الوعدين أعمال يقدمها الفاعل في الدنيا، تثمر مقابلاً من جنسها يوم القيامة، مع اختلاف أكيد في الجزاء الآخروي المقابل لأفعال العباد في الدنيا، وحتى لا يركن الناس لجانب الحث على إمهال المعسرين والتجاوز عنهم، تم التذكير بالتحذير من المماطلة في سداد المقتدرين ديونهم المستحقة، فمطل الغني ظلم، والمقتدر على قضاء الدين، ويتقاعس عن ذلك هو ممن يأكل أموال غيره بالباطل، فيحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز.
الانتفاع من فضل العلم
حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المبدوء بوعد منفس كرب الدنيا عن المكروبين فيها، تضمن كذلك وعداً لسالك طريق العلم، بأن يسهل الله له به طريقاً إلى الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ)
وفي الحديث نفسه بيان لفضل تلاوة القرآن الكريم ومدارسته ومجالس العلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلا نَزَلَتْ عَلَيهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ)
وحديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، يعزز بيان فضل العلم والعلماء، من خلال التأكيد على أن العلم الذي يتركه العالم بعد وفاته، يُبقي له استمرار الفضل والأثر الإيجابي، على الرغم من رحيل جسده عن الوجود بسبب الوفاة، فالجسد يغيب، وأثر العلم يبقى، وهذا ملموس بآثار العلماء الباقية من بعدهم، سواء منها المؤلفات، والآراء، والفكر، أم المخترعات، والاكتشافات، التي تخدم حياة الناس ووجودهم وفكرهم وثقافتهم وعبادتهم.
والملاحظ أن التركيز في الفضائل الثلاثة المشار إليها آنفاً، كان على الآثار الإيجابية المترتبة لسالك طريق العلم، ومدارس القرآن، وتارك العلم النافع، فيما بعد الرحيل عن الدنيا، فسالك طريق العلم، يسَهَّل الله له بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، والمجتمعون في بَيْتٍ من بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، يذكرهم الله فيمن عنده، إضافة إلى الرحمة التي تغشاهم، والسكينة التي تتنزل عليهم.
الاستثمار في مشاريع العلم
التشجيع على طلب العلم، وبيان فضل العلم والعلماء، يوحي بأمور خيرة كثيرة، منها التشجيع على المساهمة الخيرة في الاستثمار للدنيا والآخرة في تسهيل مسالك العلم لطالبيه، وتهيئة الأجواء، والسبل لإنجاح المشاريع العلمية، فالعلم تلزمه كلفة مالية باهظة، يعجز عن امتلاكها بعض المؤهلين ذهنياً وعقلياً للإبداع فيها، وتعجز كثير من المؤسسات العلمية عن مواصلة العطاء بسبب عوائق مالية، مما يستدعي وبخاصة من أهل الجود أن ينبروا للمساهمة السخية والمعطاءة للتغلب على المعضلات المادية التي تحول أو تعرقل النجاح في تحصيل العلم، وتحقيق الأهداف السامية من طلبه ونشره، والاستثمار في هذا المجال محمود ومنشود، وموعود بالأجر والمثوبة من الله، ولم تكن مصادفة أن يجمع النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديث واحد الإخبار عن أجر منفس الكرب، وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وأن سالك طريق العلم يسَهَّل الله له بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وأن المجتمعين في بَيْتٍ من بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ، تتنَزَل عليهم السَّكِينَةُ، وَتغشاهم الرَّحْمَةُ، وَتحَفهم الْمَلَائِكَةُ، وَيذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ.
مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ
العمل في سبيل الخير يباركه الله، ويعد أصحابه بحسن الجزاء، وهو القائل سبحانه: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر:40)
ومما يدعو للتفكر والتدبر ختم الرسول، صلى الله عليه وسلم، حديث تنفيس كرب المكروبين في الدنيا، والوعد بجزاء سالكي طريق التماس العلم، بقوله: (ومَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)
جاء في تحفة الأحوذي، أن الإبطاء من التبطئة، وهما ضد التعجل، والبطوء نقيض السرعة، والمعنى من أخره عمل عن بلوغ درجة السعادة (لم يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) من الإسراع، أي لم يقدمه نسبه، يعني لم يجبر نقيصته؛ لكونه نسيباً في قومه؛ إذ لا يحصل التقرب إلى الله تعالى بالنسب، بل بالأعمال الصالحة، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، وشاهد ذلك أن أكثر علماء السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخر بها. (تحفة الأحوذي، 8/216)
ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَابُ فَضْلِ مَنْ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ، وَفَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ حِكْمَةً مِنْ فِقْهٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَعَمِلَ بِهَا وَعَلَّمَهَا)
وفي ختام هذه الحلقة نكتفي بهذا القدر من الوقفات حول الوعد بتنفيس الكرب ووعد سالك طريق التماس العلم بأن يسهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما تخللها من تركيز على تشجيع تنفيس كرب طلبة العلم بمناسبة تخرج طلبة التوجيهي واستعدادهم للالتحاق بالجامعات وتخرج طلبة الجامعات الذين تبقى شهادات بعضهم محجوزة لحين سداد الالتزامات المالية الباقية عليهم للجامعات.
سائلين الله أن يتجاوز عن سيئاتنا، وأن يوفقنا لنيل رضاه سبحانه، وصلى الله على نبينا محمد وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

تاريخ النشر 2023-08-25
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس