.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

ووعداه لمنفس الكرب وسالك طريق التماس العلم - الحلقة الثانية

==========================================================

عن أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (كان الرجل يُدَايِنُ الناس، فَكَانَ يقول لِفَتَاهُ: إذا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عنه، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، قال: فَلَقِيَ اللَّهَ، فَتَجَاوَزَ عنه) (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار)
تعرضت الحلقة السابقة لتنفيس كُرب طلبة العلم، الذين تحول ضائقة ذويهم المالية دون تحقيق أمنياتهم بالدراسة الجامعية التي يرغبون فيها، ويعرقل هذا الكرب بعضهم عن مواصلة الدراسة لعجزهم عن تسديد الرسوم الجامعية وتغطية نفقاتهم اللازمة خلال تفرغهما للدراسة، ومن فئة الطلبة الجامعيين الذين يعانون بسبب أزماتهم المالية بعض الخريجين من الكليات الجامعية الذين تحتجز شهادات تخرجهم، حتى يسددوا ما عليهم من ديون مالية للجامعة أو الكلية، وفي الإسلام وعد لمنفس الكُرب عن المكروبين في الدنيا بأن ينفس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، إضافة إلى الحث على التعاون والتشجيع عليه، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سبل وأدوات تفريج كُرب المكروبين عونهم من قبل الذين منحهم الله قدرات وإمكانات تؤهلهم للقيام بدور المنقذ للمكروبين، فمثلاً الغني يملك قدرة وإمكانية يساعد بها مكروباً اقتصادياً، وطالب العلم الذي يعطله الفقر عن متابعة دراسته، أو الحصول على شهادة تخرجه، هو من المكروبين الذين يستحقون عوناً من الموسرين، والرسول، صلى الله عليه وسلم، وعد من ينفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، بأن ينفس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، والمساهمة في تنفيس الكُرب تكون بالمتاح والممكن.
مقدمات التجاوز عن المعسرين ومخرجاته
على غرار وعد منفس كُرب المكروبين في الدنيا بأن ينفس الله كُربه في الآخرة، يفيد حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، بأن الذي يتجاوز عن المعسرين بالعفو عنهم، سيجد من الله تجاوزاً عن ذنوبه يوم القيامة، فالجزاء يكون أحياناً من جنس العمل، فالذي ينفس كُرب الناس في الدنيا ينفس الله كُربه يوم القيامة، والذي يتجاوز عن المعسر يتجاوز الله عنه في الآخرة.
ففي الوعدين أعمال يقدمها الفاعل في الدنيا، تثمر مقابلاً من جنسها يوم القيامة، وشتان بين النوعين، فمهما اشتد الكرب والإعسار في الدنيا، وهي دار المفر والعبور، لن يبلغ شدة ما يكون من كُرب، وإعسار في الآخرة، ومن كرم الله ولطفه، وعظيم فضله سبحانه أنه يكافئ المحسنين الذين قدموا الخيرات في الدنيا بجزاء أعظم في الآخرة، والرجل المتحدث عنه في الحديث أعلاه، كان يؤمن بهذه الحقيقة، فكان يتجاوز عن المعسرين ممن له عليهم مستحقات مالية طمعاً ويقيناً بنيل عفو الله عنه في الآخرة، وكان له ما تمنى، وتحقق له هدفه الميمون، فطوبى لمن سلك هذا الدرب، وسعى هذا المسعى.
المعنى الإجمالي للحديث وما يستفاد منه
المداين المشار إليه في هذا الحديث الشريف كان يقول (لفتاه) أي غلامه، كما صرح به في رواية أخرى، (إذا أتيت معسراً) وهو من لم يجد وفاء، فتجاوز عنه بنحو إنظار، وحسن تقاض. والتجاوز التسامح في التقاضي، وقبول ما فيه نقص يسير (لعل الله) أي عسى الله أن يتجاوز عنا. (فلقي الله)؛ أي لقي رحمة الله في القبر أو القيامة (فتجاوز عنه) أي غفر له ذنوبه، ولم يؤاخذه بها؛ لحسن ظنه ورجائه أنه يعفو عنه مع إفلاسه من الطاعات. (فيض القدير، 4/545)
وأجيب عن تساؤل يتعلق بكيف قال: (أن يتجاوز عنا)، ثم قال: (فتجاوز عنه) بأن المراد القائل نفسه، ولكن جمع الضمير إرادة أن يتجاوز عمن فعل مثل هذا الفعل، ليدخل فيه دخولاً أوّلياً، ولذلك استحب للداعي أن يعم في الدعاء، ولا يخص نفسه؛ لعل الله تعالى ببركتهم يستجيب دعاءه. (مرقاة المفاتيح، 5/1953)
واستنبط النووي دروساً من هذا الحديث تتلخص في: فضل إنظار المعسر والوضع عنه، إما كل الدين وإما بعضه، من كثير أو قليل. وفضل المسامحة في الاقتضاء، وفي الاستيفاء، سواء استوفى من موسر أو معسر. وفضل الوضع من الدين. وأنه لا يحتقر شيء من أفعال الخير؛ فلعله سبب السعادة والرحمة. (صحيح مسلم بشرح النووي، 10/224)
مطل الغني ظلم
تحذيراً من الاتكاء على هذا الحديث وغيره من الأدلة الشرعية المستقاة من القرآن الكريم والسنة النبوية، التي تشجع على إمهال المعسر أو التجاوز عنه، ينبغي التوضيح أن هذا يتعلق بجانب المتفضل بالتيسير، والعفو عن المعسرين، لكن في الجانب الآخر يحرم التهاون في سداد الديون، ورد الحقوق إلى أصحابها، طمعاً في نيل إسقاطها من قبل أصحابها، فكما أن المتفضل بالإمهال والتيسير له الفضل والخيرية وحسن الجزاء، فإن المتباطئ في السداد وهو يقدر عليه، ويملك أسبابه، مذموم في القرآن والسنة، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...} (النساء:29)، والمقتدر على قضاء الدين، ويتقاعس عن ذلك هو ممن يأكل أموال غيره بالباطل، وهو المماطل الظالم، حسب ما جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فإذا أُتْبِعَ أحدكم على مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ) (صحيح البخاري، كتاب الحوالات، باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة)
يبين الإمام العيني أن المطل في الأصل من قولهم مطلت الحديدة أمطلها إذا مددتها لتطول، وفي المحكم المطل التسويف بالعدة، وقال القرطبي: المطل عدم قضاء ما استحق أداؤه، مع التمكن منه، وقال الأزهري: المطل المدافعة، وإضافة المطل إلى الغني إضافة المصدر للفاعل هنا، والمعنى أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز. (عمدة القاري، 12/110)
ومعنى (فإذا أتبع)؛ أي جعل تابعاً للغير بطلب الحق، وحاصله إذا أحيل على ملي؛ أي غني (فليتبع) أي فليحتل، يعني فليقبل الحوالة. (تحفة الأحوذي، 4/446)
سائلين الله أن يتجاوز عن سيئاتنا، وأن ييسر لنا متابعة الوقوف عند مزيد من معاني ودلالات الوعد بتنفيس كرب عباده يوم القيامة، الذين بادروا إلى العمل على تنفيس كروب المكروبين في الدنيا، والوعد بجزاء سالكي طريق التماس العلم حسب ما جاء في حديث النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
24 محرم 1445هـ

تاريخ النشر 2023-08-11
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس