.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يؤكد على أنه لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ - الحلقة الثامنة

==========================================================

أوحى الله إلى نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، من أنباء الغيب، مصداقاً لقوله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44)
وقفت الحلقة السابقة عند الإيمان بالغيب، والخشية به من الله، والخوف منه سبحانه، الذي يبتلي عباده ليعلم من يخافه بالغيب، وهو هنا يحتمل معنيين: أحدهما الغيب الذي أُخبروا به من النشر والحشر والجنة والنار، فآمنوا بذلك، وخشوا ربهم فيه، والمعنى الثاني أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس؛ أي في خلواتهم، في صلاتهم وعباداتهم. وخَشْيَةُ اللَّهِ بِالْغَيْبِ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، أَسَاسُ عَمَلِ الْمُسْلِمِ كُلِّهِ، وَمُعَامَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ بِإِيمَانِهِ بِالْغَيْبِ سَيَعْمَلُ كُلَّ خَيْرٍ؛ طَمَعًا فِي ثَوَابِ اللَّهِ، وَبِمَخَافَةِ اللَّهِ بِالْغَيْبِ سَيَتَجَنَّبُ كُلَّ سُوءٍ، فَيَسْلَمُ وَيَتَحَصَّلُ لَهُ الغفران والثواب.
والغيب ضد الحضور، وضد المشاهدة، ومن المفسرين من فسر الغيب بالدنيا، وأثنى الله على الذين يخشونه بالغيب، الذين هم الأحرى بالاهتمام، وهم أهل الأمل بالإيمان والتزكية، وهم أهل المثوبة، وأصحاب القلوب المنيبة.
والرسول، صلى الله عليه وسلم، ذكر من بين السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: (...وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)، وفي هذا ثناء على الذاكرين في خلواتهم في ظهر الغيب، بعيداً عن الرياء، ونبه يوسف، عليه السلام، لمسألة حفظ الغيب في سياق الإشارة إلى وفائه، وأمانته مع الملك الذي تربى في قصره. ومن أهداف الابتلاء وغاياته كشف الحقائق، وإظهار الذين ينصرون الله ورسوله بالغيب.
أنباء الغيب تُعلم بوحي الله فقط
الآية 44 من سورة آل عمران المثبت نصها أعلاه، يبين الله فيها أنه سبحانه، أوحى إلى نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، من أنباء الغيب، أَيْ: فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْكَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لَكَ عِلْمٌ بِهِ. وَيقَوْل تَعَالَى فِي سُورَةِ «هُودٍ» {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49)، وَيقَوْل تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُوسُفَ»: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102) (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 4 /94)
فذلك المذكور من قصة يوسف هو من أخبار الغيب، نخبرك به -أيها الرسول- وحيًا، وما كنت حاضرًا مع إخوة يوسف حين دبَّروا له الإلقاء في البئر، واحتالوا عليه وعلى أبيه. وهذا يدل على صدقك، وأن الله يُوحِي إليك. (التفسير الميسر 4 /202)
فتلك من أنباء الغيب، وذلك منه، وما كان للرسول، صلى الله عليه وسلم، علم به لولا أن أوحى الله إليه به، مما يؤكد نفي علم الرسول، صلى الله عليه وسلم، الغيب إلا بما أعلمه الله به أو عنه، فكيف بالناس الذين لا يتلقون الوحي، فزعمهم العلم بالغيب باطل وهراء.
الرجم بالغيب
ذُكِر الغيب في القرآن الكريم في مجال الرجم به، وحقيقة الرجم: الرمي بحجر ونحوه. واستعير لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، والباء في {بالغيب} للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به. (التحرير والتنوير، 15 /44)
وعن عِدَّةِ أصحاب الكهف في سورة الكهف، يقول تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً} (الكهف:22)
فقد أَخبر جلَّ وعلا فِي هذه الآيَة الكريمة عن اختلَاف النَّاس في عِدَّةِ أصحاب الكهف، فذكر ثلاثة أَقوال، وجاء فِي الآية الكريمة بقرينة تدلُّ على أنَّ القول الثّالث هو الصحيح، والأولان باطلان؛ لأنّه لما ذكر القولين الأَولين بقوْله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ...الْآيَةَ} (الكهف: 22)، أتبع ذلك بقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} أي: قولا بلا علمٍ، كمن يرْمي إلَى مكان لَا يعرفه، فإِنه لا يكَاد يصيب، وإِن أَصاب بلَا قصد؛ كقوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}. (سبأ:53)
وقال القرطبِيُّ: الرّجم القول بالظن، يقال لكل ما يخرص رجم فيه، ومرجوم ومرجّم، كما قال زهير:
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ
ثمَّ حكى القول الثالث بقوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ...} فأَقرَّه، ولم يذكر بعدُه أَنَّ ذلك رجم بالغيب، فدلَّ على أَنَّهُ الصّحيح، والله تعالى أعلم. (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، 3 /252)
دحض مزاعم تتعلق بالغيب ممن لم يطلعوه
أشار القرآن الكريم إلى دحض مزاعم بعض الناس في مواقفهم وأقوالهم مما يلزم له علم بالغيب، وليس لديهم ذلك، كمن زعم أنه سيؤتى مالاً وولداً، ولم يؤت علماً من الغيب قاطعاً بذلك، فقال عز وجل فيه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً* كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً* وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم:77-80)، وعن سبب نزول هذه الآيات الكريمة، يقول خَبَّاب، رضي الله عنه، في الحديث الصحيح المروي عنه: (كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ، ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}(صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب ذكر القين والحداد)
الجن لا يعلمون الغيب
يظن بعض الناس أن الجن يعلمون الغيب، فيعملون على محاولة التواصل معهم للاستفادة من علمهم بالخصوص، وقد ثبت في القرآن الكريم، أن الجن يصرحون بأنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموه لما نالهم العذاب المهين، وعن موقفهم هذا يقول تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (سبأ:14)
جاء في التفسير الميسر أنه لما قضى الله على سليمان بالموت ما دلَّ الجن على موته إلا الأرَضَةُ تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها، فوقع سليمان على الأرض، عند ذلك علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما أقاموا في العذاب المذلِّ والعمل الشاق لسليمان؛ ظناً منهم أنه من الأحياء، وفي الآية إبطال لاعتقاد بعض الناس أن الجن يعلمون الغيب؛ إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وفاة سليمان، عليه السلام، ولما أقاموا في العذاب المهين. (التفسير الميسر، 7 /391)
فمن هدي القرآن للتي هي أقوم: بيان أن الجن لا يعلمون الغيب. (الأنوار الساطعات لآيات جامعات، 3 /162)

وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
الأمور تجري في الكون وفق علم الله سبحانه وتقديره، وللابتلاء غاية يميز الله بها الخبيث من الطيب، ومن الطبيعي أن يجهل الناس تفسير بعض المجريات التي تجري في واقعهم، لجهلهم بالمثبت في علم الله الغيبي بشأنها، ومما قاله تعالى بالخصوص: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:179)
جاءت هذه الآية الكريمة في سياق التعقيب على أحداث وقعة أحد، وما لازمها من ظروف وأحوال، فأخبر تعالى في هذه الآية أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه، فيهم المؤمن الصادق في إيمانه، والكاذب فيه، وهو المنافق. بل لا بدَّ من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها؛ كالجهاد، والهجرة، والصلاة، والزكاة، وغير الشاقة من سائر العبادات، حتى يميز المؤمن الصادق، وهو الطيب الروح، من الكاذب، وهو المنافق الخبيث الروح، وذلك أن الله لم يكن من سننه في خلقه أن يطلعهم على الغيب، فيميز المؤمن من المنافق، والبار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف، ويظهر بها المؤمن من الكافر، والصالح من الفاسد. إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء، فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور، وبناء على هذا، فآمنوا بالله ورسله حق الإيمان، فإنكم إن آمنتم صادق الإيمان، واتقيتم معاصي الرحمن، كان لكم بذلك أعظم الأجور، وهو الجنة دار الحبور والسرور. (أيسر التفاسير للجزائري، 1 /415-416)
فهذه وقفة أخرى عند قضية حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، تم خلالها التركيز على أبعاد ذات صلة بهذا الموضوع العقائدي، تعلق أحدها بالتأكيد على أن أنباء الغيب تُعلم بوحي الله فقط، وتعلق الثاني بالرجم بالغيب، ثم بدحض مزاعم تتعلق بالغيب ممن لم يطلعوه، مع التأكيد على أن الجن لا يعلمون الغيب، وأنه ليس من سنن الله أن يُطْلِعَ خلقه عَلَى الْغَيْبِ، إلا من يجتبيه سبحانه لذلك، وبهذه البيانات الجازمة والقاطعة تبور تجارة الذين يزعمون علم الغيب بالباطل، ويفترض أن يصرف المؤمن نفسه عن الظن بصدقهم، فهم كاذبون حتى لو أوهموا الناس بصدقهم المزعوم، ونسأله سبحانه التوفيق لختم الوقوف عند ما تيسر من قضايا علم الغيب التي تم التطرق إليها، في ضوء القرآن الكريم، وهدي نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
8 شعبان 1446هـ

تاريخ النشر 2025-02-07
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس