عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَفَاتِيحُ (مَفَاتِحُ) الْغَيْبِ خَمْسٌ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؛ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللهُ) (صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام}(الرعد: 8)، انطلاقاً من هذا الحديث الشريف الذي تم التعرض من منطلقه في زاوية الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، لقضايا وأبعاد ذات صلة بمضمونه، تحت عنوان: الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم: (يؤكد على أنه لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ) عبر تسع حلقات سابقة، يتلخص مجملها بالآتي:
ذكر لفظ الغيب في القرآن الكريم
الحلقة الأولى تعرضت لتكرر ذكر لفظ الغيب في القرآن الكريم، وتناول موضوعات ذات صلة بقضية الغيب، التي هي قضية عقائدية تترك آثاراً على سلوك المؤمنين بها بطريقة إيجابية من جانب، وعلى سلوك منكريها بطريقة سلبية من جانب آخر، مع الإشارة إلى أن قضايا الغيب تتواصل في الوجود، وتعرضت كذلك إلى معنى الغيب في اللغة والاصطلاح، وأنه سبحانه قد يطلع بعض خلقه على بعض الأمور المغيبة عن طريق الوحي، وهذا من الغيب النسبي الذي غاب علمه عن بعض المخلوقات دون بعض، أما الغيب المطلق فلا يعلمه إلا هو سبحانه.
حصر علم مفاتيح الغيب بالله سبحانه
وتعرضت الحلقة الثانية لحصر علم مفاتيح الغيب بالله سبحانه، حيث طلب الله من رسوله الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، البيان للناس بأنه لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، فهو سبحانه يعلم حديث النفس، ويعلم السر وأخفى، ويَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا، وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ، وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ، وفي هذا السياق ينبغي التفريق بين العلم المتعلق بكشف الأمور الخفية بأساليب مشروعة، الذي لا يعد من قبيل إدعاء علم الغيب، إذ هو لا يتعدى تشخيص موجودات من دلالاتها ومؤشراتها وعلاماتها وأماراتها، وبين زعم علم الغيب، الذي يكون عادة دون وسائل علمية كأعمال الكهانة والعرافة والتنجيم، فهذه الأعمال وما يشابهها، يرفضها الإسلام، ويحذر من التعاطي معها، سواء بالفعل، أم طلب خدمات أصحابها.
العلم بموعد نزول المَطَرُ
وتعرضت الحلقة الثالثة للمفتاح الثالث من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمتعلق بحصر العلم بموعد نزول المَطَرُ بالله سبحانه، ولفظ المطر استخدم للدلالة على الماء المنزل من السماء، ومن علم الغيب بالنسبة إلى المطر أن الناس لا يدرون حين ينزل ماء السماء هل هو نازل لإغاثتهم، أم لعذابهم. ولا تضارب بين إثبات اختصاص الله سبحانه بالعلم بموعد نزول المطر، وبين وصف حالة الطقس، من قبل الأرصاد الجوية.
العلم بالمكان الذي سيموت فيه الإنسان وموعد قيام الساعة
وتعرضت الحلقة الرابعة للمفتاحين الرابع والخامس من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والمتعلقين بحصر العلم بالمكان الذي سيموت فيه الإنسان، بعلم الله جل في علاه، فلا يدري أحد من الخلق ماذا كتب اللّه له من عمر، وأين سيقضي حتفه.
والمفتاح الخامس من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى يتعلق بحصر العلم بموعد قيام الساعة، وهذا المفتاح مشار إليه في عدد من الآيات القرآنية الكريمة، والمراد بالساعة واضح أنها القيامة، فذلك تعبير قرآني عنها، وسميت القيامة ساعة؛ لأنها تحمل أشد الأهوال، ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة؛ حياة فانية، وأخرى باقية، حياة عمل، وحياة جزاء.
كل غيب صغر أم كبر لا يعلمه إلا الله
وتعرضت الحلقة الخامسة لحصر الغيب بالله جل في علاه، بموجب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ} فكل غيب صغر أم كبر لا يعلمه إلا الله.
وجملة: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تفريع على جملة: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي ليس دأبي ودأبكم إلا انتظار ما يأتي به الله إن شاء، وقد ذكرت عبارة {عالم الغيب} في اثنتي عشرة آية قرآنية، منها اثنتان دون إضافة {والشهادة}، فالأمر سيان بالنسبة إلى الله، يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه، من أسر من الناس القول في نفسه، ومن أظهره لغيره.
علم الغيب محجوب عن الخلق
وتعرضت الحلقة السادسة للخطاب الرباني الموجه للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في الآية الثلاثين من سورة الأنعام، التي طلب فيها رب البرية سبحانه، من النبي، صلى الله عليه وسلم، أن ينفي للناس ثلاثة أمور من تلك التي قد يتوهم بعضهم أنها من امتيازاته، صلى الله عليه وسلم، ومنها نفيه علم الغيب، وتكررت الإشارة إلى نفي علم الغيب عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، في عدد من الآيات القرآنية الأخرى، وفي السنة النبوية، ومن ذلك نهي الجارية التي قَالَتْ: (وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ) عن هذا القول. (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب منه)
وهناك تساؤل إنكاري تصدر بعض الآيات القرآنية، يفيد مؤداه أن علم الغيب محجوب عن الخلق، كقوله تعالى:{أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}(القلم:47)، يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به. فالحاصل أنهم لا يحيطون بعلم الغيب، وبالتالي ليست لديهم إمكانية أو قدرة على كتابة ما في الغيب، وتحديد ما فيه وبيانه.
الإيمان بالغيب، والخشية من الله بالغيب
ووقفت الحلقة السابعة عند الإيمان بالغيب، والخشية من الله والخوف منه سبحانه، الذي يبتلي عباده ليعلم من يخافه بالغيب، وهو هنا يحتمل معنيين: أحدهما الغيب الذي أُخبروا به من النشر والحشر والجنة والنار، فآمنوا بذلك، وخشوا ربهم فيه، والمعنى الثاني أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، أي في خلواتهم في صلاتهم وعباداتهم، والرسول، صلى الله عليه وسلم، ذكر من بين السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: "...وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
أوحى الله لمن اصطفى من عباده من أنباء الغيب
ووقفت الحلقة الثامنة عند الآية 44 من سورة آل عمران التي بيّن الله فيها أنه سبحانه، أوحى إلى نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، من أنباء الغيب، الذي لم يكن له عِلْمٌ بِهِا. ما يؤكد نفي علم الرسول، صلى الله عليه وسلم، الغيب إلا بما أعلمه الله به أو عنه، فكيف بالناس الذين لا يتلقون الوحي، فزعمهم العلم بالغيب باطل وهراء. وذكر الغيب في القرآن الكريم في مجال الرجم به، الذي حقيقته الرمي بحجر ونحوه. واستعير لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، وتعرضت الحلقة كذلك لدحض مزاعم تتعلق بالغيب ممن لم يطلعوا عليه، كالعاص بن وائل الذي زعم أنه سيؤتى مالاً وولداً، ولم يؤت علماً بالغيب قاطع بذلك، والجن لا يعلمون الغيب، وهم يصرحون بأنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموه لما نالهم العذاب المهين، والأمور تجري في الكون وفق علم الله سبحانه وتقديره، وللابتلاء غاية يميز الله بها الخبيث من الطيب، ومن الطبيعي أن يجهل الناس تفسير بعض المجريات التي تجري في واقعهم، لجهلهم بالمثبت في علم الله الغيبي بشأنها، حيث جاء ذكر ذلك في سياق التعقيب على أحداث وقعة أحد، وما لازمها من ظروف وأحوال، فأخبر تعالى أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه، فيهم المؤمن الصادق في إيمانه، والكاذب فيه، وهو المنافق.
بل لا بد من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها؛ كالجهاد والهجرة والصلاة والزكاة، وغير الشاقة من سائر العبادات، حتى يميز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح، من الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح، ولم يكن من سننه سبحانه في خلقه أن يطلعهم على الغيب، فيميز المؤمن من المنافق، والبار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف، ويظهر بها المؤمن من الكافر، والصالح من الفاسد. إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور، وبناء على هذا فآمنوا بالله ورسله حق الإيمان، فإنكم إن آمنتم صادق الإيمان، واتقيتم معاصي الرحمن، كان لكم بذلك أعظم الأجور، وهو الجنة.
أعد الله للصالحين من عباده نعيماً في الجنة مغيباً عن علم البشر وإدراكهم
ووقفت الحلقة التاسعة عند وعد أهل الجنة لينالوا فيها من نعيم غيبي، لَا عَيْنٌ رَأَتْه، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْه، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مع بيان معنى قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} المتضمن في الآية السابعة عشرة من سورة السجدة، وعبر عن تلك النعم بـ {مَا أُخْفِيَ} لأنها مغيبة لا تدرك إلا في عالم الخلود، فقد ادخر الله في الجنة من النعيم والخيرات واللذات، ما لا يطلع عليه أحد من الخلق بطريق من الطرق، وتخصيص قلب بشر -بأن لا يعلمه يدل والله أعلم- أنه يجوز أن يخطر على قلوب الملائكة.
وبهذا الإجمال لما تضمنته الحلقات التسع السابقة نختم بحمد الله ما تيسر من وقفات تتعلق بموضوع حصر العلم بمفاتيح الغيب بالله سبحانه، آملين أن ينفعنا الله وكل مطلع على مضامينها، لنزداد يقيناً بديننا وبقدرة ربنا المطلع على الغيب، فنسأله سبحانه أن ييسر لنا خيره، ويكف عنا الشر، كما صرفه عن أوليائه وأنبيائه وخاتمهم نبينا محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
22 شعبان 1446هـ