.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يبشر الصائمين بفرحتين

==========================================================

 عن أَبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: قال الله: (كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ له إلا الصِّيَامَ، فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أو قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إني امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ من رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إذا أَفْطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم)
نودع شهر رمضان بحمد الله أن وفقنا لصيامه، ويسر لنا عبادته سبحانه فيه على الوجه المشروع والمطلوب، راجين أن يتقبله منا.
رجاء التقوى من الصيام
جدير بالذي صام رمضان أن يسأل نفسه عن مدى تحقق غاية التقوى مع الانتهاء من أداء هذا الركن من أركان الإسلام، والقرآن الكريم ذكر التقوى على سبيل الأمر بها، والإشادة في آيات كثيرة، فعلى سبيل رجائها بصيغة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ذكرت في ست آيات، أربع منها في سورة البقرة، وواحدة في الأنعام، وأخرى في الأعراف.
ومن هذه الآيات الست الآية 183 من سورة البقرة التي فرض الله فيها الصيام على المؤمنين، لعلهم يتقون، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183)، وفي الحديث أعلاه ذكر لدرب من دروب تحقق التقوى من الصيام، يفترض في المسلم أن يعمل وفقه خلال صيامه وقبله وبعده، فَالصِّيَامُ وقاية من انحراف السلوك، وفساد القلوب، وبه يهذب سلوك الصائم، عن التلبس بآفات السلوك، التي حذر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من بعضها بقوله: (من لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم)
والمتخرج من مدرسة الصيام يتأهل لدرجة التسامي عن مبادلة السباب بمثله (وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أو قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إني امْرُؤٌ صَائِمٌ)
والمسلم يسعى ليس للتعمق في اكتساب التقوى فحسب، بل ليصل في الامتثال درجة حق التقوى، التي أمره الله بالسعي لها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(آل عمران:102) ولم يذكر الأمر في القرآن بحق التقوى إلا في هذه الآية الكريمة، وقرن أمر المؤمنين بها بأن يحرصوا على أن لا يموتوا إلا وهم مسلمون.
وعن عبد الله بن مسعود، في قوله: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى)(رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح، حسب قول صاحب مجمع الزوائد:6/326)
جاء في جامع العلوم والحكم أن معنى ذكره، فلا ينسى ذكر العبد بقلبه لأوامر الله، في حركاته وسكناته وكلماته، فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها، وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات، كما قال أبو هريرة لما سئل عن التقوى، فقال: (هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه، أو جاوزت، أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى، وأخذ هذا المعنى ابن المعتز، فقال:
خل الذنوب صغيرها
واصنع كماش فوق أر
لا تحقرن صغيرة إن
وكبيرها فهو التقى
ض الشوك يحذر ما يرى
الجبال من الحصى.

فرح الصائمين
يبشر الرسول، صلى الله عليه وسلم، الصائمين في حديثه المثبت نصه أعلاه، بفرحتين، فيقول: (...لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إذا أَفْطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) فالحمد لله أن حقق لنا الفرح بالفطر بعد الالتزام بالإمساك عن مباحات بموجب فرض الصيام، حيث كنا نفرح مع غروب شمس كل يوم من أيام الصيام بأن وفقنا الله للصيام وأعاننا عليه، ومتعنا بتناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب المباحين، مرددين: اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبله منا، ومردفين بما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقوله إذا أفطر: (ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله) (سنن النسائي الكبرى:3/374، وقال النيسابوري: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، المستدرك على الصحيحين:1/584)
وفي معنى فرح الصائم بفطره، يقول القرطبي: فرح بزوال جوعه وعطشه؛ حيث أبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعي، وهو السابق للفهم، وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه، وخاتمة عبادته، وتخفيف من ربه، ومعونة على مستقبل صومه.(عمدة القاري:10/277)
وفرحة الصائم الأخرى بإفطاره في الدنيا تكون بعيد الفطر، الذي يؤمر فيه المسلم بالإفطار بعد التزامه شهراً بالصيام، فيفطر يوم العيد تعبداً لله بذلك، وفرحاً بصيامه، الذي يسر الله له أداءه، ويحرم يوم العيد الصيام، كما حرم على المكلف به الإفطار في نهار رمضان، فعن أبي عُبَيْدٍ، مولى بن أَزْهَرَ، أَنَّهُ قال: (شَهِدْتُ الْعِيدَ مع عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، فَجَاءَ، فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَخَطَبَ الناس، فقال: إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ نهى رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عن صِيَامِهِمَا؛ يَوْمُ فِطْرِكُمْ من صِيَامِكُمْ، وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فيه من نُسُكِكُمْ)(صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى)
وفرحة الصائم الكبرى تكون عند لقاء ربه، الذي قال في الحديث القدسي أعلاه: (كُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ له إلا الصِّيَامَ، فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ) وقال سبحانه عن الصائم في الحديث نفسه: (وإذا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) أي فرح بجزائه وثوابه، وقيل هو السرور بقبول صومه، وترتب الجزاء الوافر عليه.(عمدة القاري:10/277)
والذي صام رمضان وقام ليله موعود بمغفرة ذنبه، فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: (من قام لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية)
وقال صلى الله عليه وسلم: (من صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ)(صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان)
فهنيئاً لمن صام وقام، مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومقامه عند رب السماوات والأرض، حين يدخل الجنة من باب الريان، المخصص للصائمين دون سواهم، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ في الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ له الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منه الصَّائِمُونَ يوم الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ منه أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ منه أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإذا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فلم يَدْخُلْ منه أَحَدٌ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين)
سائلين الله أن يتقبل منا الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وصالح الأعمال، وأن يجيب دعاءنا وهو القائل سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...}(غافر:60) ونسأله سبحانه أن ينصرنا بالحق على أعدائنا، وأن يتقبل شهداءنا، وأن يحرر أسرانا، ومسرى نبينا محمد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
1 شوال 1444هـ

تاريخ النشر 2023-04-21
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس