عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ). (صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان)
تعرضت الحلقة السابقة إلى معنى "رمضان" في اللغة والاصطلاح، وذكره في القرآن والسنة، وإلى إطلاق اسمه دون ذكر الشهر، وقد بين النووي أن في إطلاق لفظ رمضان دون ربطه بلفظ "شهر" دليلاً للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون أنه يجوز أن يقال "رمضان" من غير ذكر الشهر بلا كراهة، وبالنسبة إلى قول: "إذا جاء رمضان" قال السيوطي: فيه رد لمن قال يكره ذكر رمضان بدون شهر.
وبينت الحلقة أن المراد من فتح أبواب الجنة مع مجيء رمضان، حقيقة الفتح، وذهب بعضهم إلى أن المراد بذلك كثرة الطاعات في شهر رمضان، فإنها موصلة إلى الجنة، فكني بها عن ذلك، ويقال: المراد به ما فتح الله على العباد فيه من الأعمال المستوجبة بها إلى الجنة؛ من الصيام والصلاة والتلاوة، وأن الطريق إلى الجنة في رمضان سهل، والأعمال فيه أسرع إلى القبول. ويكون ذلك في أول ليلة من رمضان، وأن الإخبار عن فتح أبواب الجنة في رمضان ينسجم مع البشرى بجنات عدن مفتحة لهم الأبواب، التي زفها الله لعباده المخلصين في قرآنه الكريم، فأبواب الجنة تفتح للمتقين ليدخلوها من أيها شاءوا، والصائمون خصَّهم الله بباب لا يدخل أحد الجنة منه إلا من كان من شريحتهم، مع احتفاظهم بفرصة التنعم بدخول الجنة من أبوابها الأخرى، بناء على ما ثبت في الحديث الصحيح.
إغلاق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين مع مجيء رمضان
حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه يثبت أنه إضافة إلى فتح أبواب الجنة مع مجيء رمضان، فإن أبواب النار تغلق، وتصفد الشياطين، ومعنى إغلاق أبواب جهنم: فلا يدخلها منهم أحد مات فيه. (شرح السيوطي على مسلم، 3 /183)
ومعنى "وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ": أي شدت بالأصفاد. والمراد المردة منهم، فقد جاء عند النسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه و سلم: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ). (سنن النسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على معمر فيه، وصححه الألباني)
وتصفد الشياطين في رمضان لئلا تفسد على الصائمين، فإن قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرا،ً فلو كانت الشياطين مصفدة ما وقع شر، فالجواب من أوجه:
أحدهما: إنما يغل عن الصائمين صوماً حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، أما ما لم يحافظ عليه، فلا يغل عن فاعله الشيطان.
الثاني: لو سلم أنها مصفدة عن كل صائم، فلا يلزم ألا يقع شر؛ لأن لوقوع الشر أسباباً أخرى غير الشياطين، وهي النفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسية.
الثالث: أن المراد غالب الشياطين، والمردة منهم، وأما غيرهم فقد لا يصفد، والمراد تقليل الشرور، وذلك موجود في رمضان، فإن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور. (الديباج على مسلم، 3 /182)
ويورد النووي تأويل القاضي عياض للمراد من هذا الحديث الشريف، فيقول: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن تفتيح أبواب الجنة، وتغليق أبواب جهنم، وتصفيد الشياطين، علامة لدخول الشهر، وتعظيم لحرمته، ويكون التصفيد ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم، قال: ويحتمل أن يكون المراد المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم ليصيروا كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء، ولناس دون ناس، ويؤيد هذه الرواية الثانية فتحت أبواب الرحمة، وجاء في حديث آخر صفدت مردة الشياطين، قال القاضي: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً؛ كالصيام، والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى (صفدت) غللت، والصفَد بفتح الفاء، الغُل بضم الغين، وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى. (شرح النووي على مسلم، 7 /188)
فوائد مستخلصة من هذا الحديث الشريف
استخلص بعض العلماء من هذا الحديث الشريف فوائد، منها:
1- أنه دليل على فضل شهر رمضان، ومن فضائله:
أولاً : تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار.
وهذا يتم في أول ليلة من هذا الشهر المبارك: وقد جاء عند بعض أصحاب السنن إضافة لنص الحديث أعلاه، ونصها: "أنه: (وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ). (سنن الترمذي، كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل شهر رمضان، وصححه الألباني)
ثانياً : تصفد فيه الشياطين وتغل .
ثالثاً: فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. (سورة القدر) وقد حسب بعض العلماء ألف شهر، فوجدوها تزيد عن (83) سنة .
رابعاً: شهر القرآن. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} .(البقرة: 185)
والمراد إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
خامساً: صوم رمضان سبب لمغفرة الذنوب.
2 - أن للجنة أبواباً.
3 - إثبات الجنة والنار، وأنهما الآن موجودتان.
4 - سعة رحمة الله.
5 - إثبات وجود الشياطين.
6 - ينبغي استغلال وقت الرحمة والمغفرة للتقرب إلى الله. (إعانة المسلم في شرح صحيح مسلم، 1 /2-3)
حسن التقرب إلى الله في رمضان
يفترض في المسلم أن يستعد لكسب مزيد من الثواب في رمضان، ونيل العفو والغفران من الله على ما سلف من الذنوب المقترفة، من خلال الحرص على الصيام والقيام إيماناً واحتساباً لله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان) وعنه، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان)
ومعنى صيام رَمَضَان وقيامه إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا: أي مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه، ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 1 /95)
فينبغي لمن يحرص على الفوز بهذا الكرم الرباني أن يقدم المتطلبات المطلوبة منه لذلك، فيصوم لله محتسباً، على الوجه الذي شرعه الله، بنقاء وصفاء، دون تلبس بالآثام والخطايا ومثالب السلوك، حتى يجد من الله قبولاً لعبادته، ومثوبة عليها، وإلا فليس له سبحانه حاجة في أن نجوع ونعطش ونحن نقترف المحرمات، وقد حذر عليه الصلاة والسلام، فقال: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم)
والذين يحرصون على تلاوة القرآن، يتعبدون لله بذلك ينبغي أن يخلو حرصهم وأداؤهم لهذه العبادة من الرياء والتباهي، كما يحصل من بعض الناس الذين يتسابقون بعدد مرات ختم القرآن في الشهر، أو بعدد السور التي انتهوا من قراءتها، أو ما شابه ذلك، فتلاوة القرآن في رمضان وغيره عبادة يلزمها الإخلاص والاحتساب، وقد حذر رَسُول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم من عواقب أداء قربات؛ ومنها قراءة القرآن رياء، فقال: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِي في النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِي فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِىي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِي فِي النَّارِ». (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار)
راجين من الله التوفيق والسداد لنعبد الله على الوجه الذي يرضيه سبحانه، وأن يعتق رقابنا من النار، برحمة منه جل جلاله ورضوان.
فهده وقفة عند مزيد من بشائر الخيرات التي وعد بها المسلمون مع مجيء رمضان، المتمثلة بالإضافة إلى فتح أبواب الجنة بإغلاق أبواب النار، وتصفيد الشياطين مع هذا المجيء المبارك، سائلين الله العلي القدير أن ينجينا من النار وشرها، ومن الشياطين وهمزاتهم وعدائهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
7 رمضان 1446هـ