عن عَائِشَةَ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها)(صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما، والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما)، وعنها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قال في شَأْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: (لَهُمَا أَحَبُّ إليّ من الدُّنْيَا جميعاً) (صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما، والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما)
وقفت الحلقة السابقة عند بيان موضع السوط أو القوس من الجنة، حسب المبين في الأحاديث الصحيحة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فكل منها خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها، وأريد بقوله: (موضع سوط في الجنة) قدر قليل منها، أو مقدار موضعه فيها، ومعنى (قاب قوس) أي قدره، وخُص السوط بالذكر لأن من شأن الراكب إذا أراد النزول في منزل أن يلقي سوطه قبل أن ينزل، معلماً بذلك المكان الذي يريده، لئلا يسبقه إليه أحد. والمراد من هذه المفاضلة تسهيل أمر الدنيا، وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر عظيم مما في الدنيا جميعه، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات.
وتعرضت الحلقة كذلك لبيان تميز خير الآخرة والجزاء فيها بالأفضلية، فثواب الزمن القليل في الجنة خير من الدنيا كلها، وكذا موضع السوط في الجنة، يشار به إلى ما صغر في الجنة من المواضع كلها، من بساتينها وأرضها، فأخبر أن قصير الزمان وصغير المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيداً بها، وتصغيراً لها، وترغيباً في الجهاد، إذ بهذا القليل الذي يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فكيف بمن أتعب فيه نفسه، وأنفق ماله؟! وقيل: إن معنى (خير من الدنيا) ثواب ذلك في الجنة خير من الدنيا، وقيل: خير من أن يتصدق بما في الدنيا إذا ملكها، وقيل: إذا ملك ما في الدنيا وأنفقها في وجوه البر والطاعة، غير الجهاد، وقال القرطبي: أي الثواب الحاصل على مشية واحدة في الجهاد، خير لصاحبه من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها، والله تعالى في قرآنه الكريم بين مراراً فضل نعيم الآخرة على متاع الدنيا وزينتها، فالحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بين الناس، وتكاثر في الأموال والأولاد، وهي تشبه غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يكون حطاماً، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها
لم يقتصر العمل الذي يفوق فضله بالنسبة إلى مجازاة صاحبه في الآخرة الدنيا وما فيها، على الرباط في سبيل الله، والغدوة والروحة في سبيل الله، وموضع سوط المجاهد في سبيل الله، بل هناك من الأعمال يرتقي فاعلوها للفوز بمثل هذا الفضل العظيم، وهي غير عسيرة الحصول، وغير مكلفة الأداء، فركعتا الفجر ينال مؤديهما فضلاً في الآخرة يفوق في قدره ونوعه الدنيا وما فيها، كما هو مبين في حديث عائشة، رضي الله عنها، المثبت نصه أعلاه، وفي حاشية السندي على سنن النسائي، أن المراد بركعتي الفجر هنا سنة الفجر، وهي المشهورة بهذا الاسم، ويحتمل الفرض، (خير من الدنيا) أي خير من أن يعطي تمام الدنيا في سبيل الله تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيراً، وإلا فذرة من الآخرة لا يساويها الدنيا وما فيها.(حاشية السندي على سنن النسائي:3/252)
ويبين صاحب فيض القدير أن المفاضلة هنا راجعة لذات النعيم، لا إلى ركعتي الفجر نفسهما. وقال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها، فالخير إما يجري على زعم من يرى فيها خيراً، أو يكون من باب {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا}(مريم:73)، وإن حمل على الإنفاق في سبيل الله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثواباً منها.(فيض القدير: 4/36)
مَنَادِيلُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ في الْجَنَّةِ
الزهد في الدنيا وزينتها يتحقق بالنظر لقدرهما الضحل بالنسبة إلى نعيم الآخرة، ومن الأحاديث التي تظهر هذا المعنى، ما رواه أَنَس، رضي الله عنه، قال: (أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وكان يَنْهَى عن الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ الناس منها، فقال: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ في الْجَنَّةِ أَحْسَنُ من هذا)(صحيح البخاري، كتاب الهبة فضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين)
يبين الإمام العيني أن الثوب المذكور أهداه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، صاحب دومة، ووجه تخصيص سعد بن معاذ بالذكر فلكونه سيد الأنصار، أو كان يحب ذلك الجنس من الثوب، وأما تخصيص المناديل بالذكر؛ فلكونها تمتهن، فيكون ما فوقها أعلى منها بطريق الأولى.(عمدة القاري:22/14)
وفيه منقبة عظيمة لسعد، رضي الله تعالى عنه، وأن أدنى ثيابه في الجنة كذلك؛ لأن المنديل أدنى الثياب، معد للوسخ والامتهان، والمناديل جمع منديل وهو ما يمسح به ما يتعلق باليد من الطعام.(عمدة القاري:23/173)
فهذه وقفات تأملية عند بعض النصوص الشرعية التي بينت الفرق الشاسع بين نعيم الآخرة وبين متاع الدنيا حتى وإن تحقق على أكمله، بالنسبة إلى من يأتي بعض الأفعال المميزة في سبيل الله، مكتفين في هذه المرحلة بما تيسر بيانه والوقوف عنده سواء من ناحية النصوص أم المعاني، سائلين الله العلي القدير أن يوفقنا للعمل بما يرضيه سبحانه، للفوز بالجنة ونعيمها، تحقيقاً لما وعدنا به الله ورسوله محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
10 ذو القعدة 1443هـ