عن سَهْلٍ، قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (مَوْضِعُ سَوْطٍ في الْجَنَّةِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها...)(صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب مثل الدنيا في الآخرة)
خلال الحديث عن أمور تفوق الدنيا في الفضل، وقفت الحلقة السابقة عند تعليل العدول عن قوله: (وما فيها) إلى قوله: (وما عليها) إذ إن لفظ (عليها) يفيد الاستعلاء، وهو أعم من الظرفية وأقوى، فقصده زيادة المبالغة.
وبالنسبة إلى معنى الغدوة والروحة، فالغدوة هي السير أول النهار إلى الزوال، والروحة السير من الزوال إلى آخر النهار، و(أو) في قوله: (لغدوة أو روحة) للتقسيم لا للشك، ومعناه أن الروحة يحصل بها هذا الثواب، وكذا الغدوة، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقه إلى الغزو، وكذا غدوة وروحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله، ومعنى هذا الحديث أن فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابهما خير من نعيم الدنيا كلها لو ملكها إنسان، وتصور تنعمه بها كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة باق، وتم التذكير بفضل منازل الآخرة وثوابها في سياق الحديث عن منازل الشهداء، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، انتهز فرصة المناقشة التي دارت بينه وبين أم الشهيد حارثة، ليبين فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، فالمرأة من نساء الجنة لو اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت الأرض ريح مسك.
موضع السوط أو القوس من الجنة
يبين النبي، صلى الله عليه وسلم، في مقطع حديثه المثبت نصه أعلاه فضل موضع السوط في الجنة، فهو خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما فيها، وقوله: (موضع سوط في الجنة) أريد به قدر قليل منها، أو مقدار موضعه فيها.(تحفة الأحوذي:8/290)
وخُص السوط بالذكر لأن من شأن الراكب إذا أراد النزول في منزل أن يلقي سوطه قبل أن ينزل، معلماً بذلك المكان الذي يريده، لئلا يسبقه إليه أحد.(عمدة القاري:15/157)
جاء في تحفة الأحوذي، أن المراد تسهيل أمر الدنيا، وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر عظيم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبه هذا المتأخر إلى أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل مما في الدنيا جميعه. (تحفة الأحوذي:5/236)
وفي روايات جاء: (ولقاب قوس أحدكم) وبدلاً من قوله: (خير من الدنيا وما عليها) جاء: (خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ) فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لَقَابُ قَوْسٍ في الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ، وقال: لَغَدْوَةٌ أو رَوْحَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ)(صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الغدوة والروحة في سبيل الله...)
ومعنى قاب قوس، أي قدره، والقاب بالقاف معناه القدر، وقيل: القاب ما بين مقبض القوس وسيته، وقيل: ما بين الوتر والقوس، وقيل: المراد بالقوس هنا الذراع الذي يقاس به، وكأن المعنى بيان فضل قدر الذراع من الجنة.(تحفة الأحوذي:5/236)
المفاضلة بين نعيم الآخرة ومتاع الدنيا في هذا المقام
جاء في عمدة القاري شرح المهلب لمعنى قوله: (خير من الدنيا) إذ قال: إن ثواب هذا الزمن القليل في الجنة خير من الدنيا كلها، وكذا قوله: (لقاب قوس أحدكم) أي موضع سوط في الجنة، يريد ما صغر في الجنة من المواضع كلها، من بساتينها وأرضها، فأخبر أن قصير الزمان وصغير المكان في الآخرة، خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيداً وتصغيراً لها، وترغيباً في الجهاد، إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فكيف بمن أتعب فيه نفسه، وأنفق ماله؟! وقال غيره: معنى (خير من الدنيا) ثواب ذلك في الجنة خير من الدنيا، وقيل: خير من أن يتصدق بما في الدنيا إذا ملكها، وقيل: إذا ملك ما في الدنيا، وأنفقها في وجوه البر والطاعة، غير الجهاد. وقال القرطبي: أي الثواب الحاصل على مشية واحدة في الجهاد، خير لصاحبه من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها.(عمدة القاري:14/92)
والله تعالى في قرآنه الكريم بين مراراً فضل نعيم الآخرة على متاع الدنيا وزينتها، ومن ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}(محمد:36)
ويقول تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور}(الحديد:20)
سائلين الله العلي القدير أن يوفقنا للعمل بما يرضيه سبحانه، للفوز بالجنة ونعيمها، وأن ييسر جل شأنه في الحلقة القادمة متابعة الحديث عن مزيد من الأمور التي تفوق في فضلها الدنيا وما عليها، حسب المبين في حديث النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
4 ذو القعدة 1443هـ