عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا، وَلاَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ). (صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع)
وقفت الحلقة السابقة عند عينة من مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من السنة النبوية الشريفة، حيث تضمنت بعض الأحاديث النبوية ذكراَ للفظ الأخ في نصوصها، خلال الحث على أمور تقتضيها الأخوة، أو النهي عن أخرى تتنافى معها، ومنها تلك التي تضمنها حديث أنس الذي حث فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، على المحافظة على عمق العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين، فهي علاقة وثيقة للغاية، يُرفض بموجبها أن يكون المسلم أنانياً يقصر حبه للخير على نفسه، بل لا بد له أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ومن مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من السنة النبوية وعظ الأخ أخاه، وإرشاده ونصحه، والدعاء له، خاصة بظهر الغيب، ومن الخطيئة تكفير الأخ أخاه، وليس للأخ أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيعه، ويحرم عليه خذل أخيه وتحقيره، وكله عليه حرام دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ، والمسلم له ذمة الله وذمة رسوله، عملاً بقوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ، الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ). (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، فضل استقبال القبلة)
وتوطيداً للعلاقة الأخوية السليمة بين المسلمين، فإن الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، يحذر من أمور، وينهى عن أخرى، وذلك على النحو الآتي:
التحذير من الظن
ضمن تعزيز إجراءات توطيد علاقة المسلم بالمسلم، وإطفاء ما يفسدها، يحذر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من الظن، قائلاً: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث". أي اتقوا سوء الظن بالمسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا...} (الحجرات:12)، والظن المنهي عنه هو ما يستقر عليه صاحبه، دون ما يخطر بقلبه، ومن الظن المذموم اتباع الظن في أمر الدين الذي مبناه على اليقين، قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (يونس:36)، قال القاضي: هو تحذير عن الظن فيما يجب فيه القطع، أو التحدث به عند الاستغناء عنه، أو عما يظن كذبه. أو اجتنبوا الظن في التحديث والإخبار، والظاهر أن المراد التحذير عن الظن بسوء في المسلمين، وفيما يجب فيه القطع من الاعتقادات. (تحفة الأحوذي، 6 105-106)
قال أبو سليمان الخطابي: قوله: "إياكم والظن" فإنه أراد النهي عن تحقيق ظن السوء وتصديقه، دون ما يهجس بالقلب من خواطر الظنون؛ فإنها لا تملك، قال الله تعالى: {إن بعض الظن إثم} فلم يجعل الظن كله إثمًا. قال غيره: فنهى عليه السلام، أن تحقق على أخيك ظن السوء إذا كان الخير غالبًا عليه. (شرح صحيح البخاري، لابن بطال، 9 /260)
ويؤيد الحث على اجتناب الظن في التحديث والإخبار، قوله، صلى الله عليه وسلم: "فإن الظن أكذب الحديث" ويقويه حديث: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ». (صحيح مسلم، مقدمة الإمام مسلم، رحمه الله، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع)؛ أي إذا لم يتثبت؛ لأنه يسمع عادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع لا محالة يكذب، والكذب الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه، وإن لم يتعمد، لكن التعمد شرط الإثم. (فيض القدير، 5 /2)
قول: "فإن الظن" في قوله: "فإن الظن أكذب الحديث" أقام المظهر مقام المضمر حثاً على تجنبه. "أكذب الحديث" أي حديث النفس؛ لأنه بإلقاء الشيطان في نفس الإنسان، ومعنى كون الظن أكذب الحديث، مع أن الكذب خلاف الواقع فلا يقبل النقص، وضده أن الظن أكثر كذباً، أو أن إثم هذا الكذب أزيد من إثم الحديث الكاذب، أو أن المظنونات يقع الكذب فيها أكثر من المجزومات، قال الحافظ: وقد استشكلت تسمية الظن حديثاً، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولاً أم فعلاً، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن، فوصف الظن به مجازاً. (تحفة الأحوذي، 6 /105-106)
ويبين العيني أن هذا يعني أن الظن أكثر كذباً من الكلام، وقيل إن إثم هذا الكذب أزيد من إثم الحديث، أو من سائر الأكاذيب، وإنما كان إثمه أكثر؛ لأنه أمر قلبي، والاعتبار به، كالإيمان ونحوه، وقيل الظن ليس كذباً، وشرط أفعل أن يكون مضافاً إلى جنسه، وأجيب بأنه لا يلزم أن يكون الكذب صفة للقول، بل هو صادق أيضاً على كل اعتقاد وظن ونحوهما، إذا كان مخالفاً للواقع، أو الظن كلام نفساني، وأفعل قد يضاف إلى غير جنسه، أو بمعنى أن الظن أكثره كذب، أو المظنونات يقع فيها الكذب أكثر من المجزومات. (عمدة القاري، 29 /325)
النهي عن التجسس والتحسس
ضمن تعزيز إجراءات توطيد علاقة المسلم بالمسلم، وإطفاء ما يفسدها، ينهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، في حديثه أعلاه عن التجسس والتحسس، والتجسس هو البحث عن باطن أمور الناس، وأكثر ما يقال ذلك في الشر، وقال سليمان الخطابي: وأما التحسس - بالحاء- فقد اختلف في تفسيره، فقال بعضهم: هو كالتجسس سواء. ومنهم من فرق بينهما، وروى الأوزاعي عن يحيى بن أبى كثير أنه قال: التجسس: البحث عن عورات المسلمين، والتحسس: الاستماع لحديث القوم. وقال أبو عمر: التحسس - بالحاء- أن تطلبه لنفسك، وبالجيم أن تكون رسولاً لغيرك. (شرح صحيح البخاري لابن بطال، 9 /259-260)
والله نهى في القرآن الكريم عن التجسس مقروناً بالنهي عن الظن، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا...} (الحجرات:12)
وعن مجاهد: خُذوا ما ظهر، ودَعوا ما ستر الله. وقال سهل: لا تبحثوا عن طلب ما ستر الله على عباده. (البحر المديد، 7 /245)
النهي عن التباغض
ينهى صلى الله عليه وسلم، المسلمين كذلك عن التباغض، وهو من باب التفاعل الذي هو اشتراك الجماعة، وهو من البغض ضد الحب. (عمدة القاري، 29 /326)؛ أي لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأن البغض لا يكتسب ابتداء، وقيل: المراد بالنهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض، والمذموم منه ما كان لغير الله تعالى، وإلا فهذا واجب، ويثاب فاعله لتعظيم حق الله عز وجل. (عمدة القاري، 32 /252)
فتباغض المسلمين فيما بينهم آفة وخيمة نهوا عنها، لأنها نقيض الحب والتآخي الصادق، وقد نبه الله إلى ناتج سلبي عظيم يفرزه التباغض، ألا وهو التنازع، الذي يقود إلى الفشل وذهاب القوة، فقال عز وجل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46)
وشتان بين الإخوة المتحابين، وبين المتباغضين، فالمتحابون يحرصون على مصالح إخوانهم، ويحبون الخير لهم، ويدافعون عن حياضهم، ويتنافسون في تحسس حاجاتهم، ويلبون منها ما استطاعوا إليه سبيلاً، ويؤثرون على أنفسهم إخوانهم ولو كانت بهم خصاصة، بينما المتباغضون يتربصون بإخوانهم الدوائر، ويمتنعون عن تقديم العون لهم لو احتاجوا إليه، ويتحاسدون ويتناجشون ويتخاصمون، ولا يردعهم وازع عن إيذاء بعضهم بعضاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكونوا إخواناً
وعلى درب توطيد العلاقة بين المسلمين يحث الرسول، صلى الله عليه وسلم، المسلمين أن يكونوا إخواناً، وهذا الأمر النبوي يتوافق وينسجم تماماً مع المبدأ الذي أرساه الله في قرآنه الكريم، إذ قال جل جلاله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} (الحجرات:10)
وتفضل الله على المسلمين بنعمة التآخي بينهم في الدنيا، ونبههم إلى استذكار هذا الفضل العظيم، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا...} (آل عمران:103)
ومن خصائص الفائزين في الآخرة، أن الله ينزع ما في صدورهم من غل تجاه بعضهم بعضاً، ويكونون إخواناً على سرر متقابلين، مصداقاً لقوله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (الحجر:47)
وبفضل نعمة الأخوة تتحقق للمسلمين غايات سامية عظيمة، وخيرات واسعة، كالتي تحققت للمهاجرين والأنصار، والأخيار من بعدهم، وبناء عليها يتعاضدون، ويكونون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، كما أحب الله لهم أن يكونوا، حيث قال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف:4)، ويكونون كالجسد الواحد، كما رغب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لهم أن يكونوا، حيث قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم)
فهذه وقفة ثالثة مع جانب آخر لعلاقة المسلم بالمسلم، والمتعلق بتعزيز إجراءات توطيد علاقة المسلم بالمسلم، وإطفاء ما يفسدها، حيث تم التركيز على جوانب من مقتضيات الأخوة بين المسلمين في ضوء عينة مما جاء في الحديث الشريف بالخصوص، والتي دارت محاورها حول: التحذير من الظن، والنهي عن التجسس والتحسس، وعن التباغض، وأمرهم بأن يكونوا إخواناً.
على أمل التوفيق للوقوف عند مزيد من جوانب علاقة المسلم بالمسلم المستخلصة من القرآن الكريم وسنة الرسول الأسوة، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
25 ربيع الآخر 1447هـ