عن عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "...وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه)
وقفت الحلقة السابقة عند عينة من مقتضيات الأخوة الإيمانية المقتبسة من السنة النبوية الشريفة، ومن ذلك تحفيز المسلم على تفريج كرب أخيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، مما يشير إلى فضل إعانة المسلم وتفريج الكرب عنه، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها من أزالها بماله أو جاهه، أو مساعدته، والظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته ورأيه ودلالته، والله أعلم. ومقابلة تفريج كرب الذي يفرج كرب المكروب في الدنيا، تكون بتفريج كربه يوم القيامة، وشتان بين الفرجين، فأحدهما عظمته دنيوية، والمقابل عظمته آخروية، وقد وعد الله جل جلاله الصالحين من عباده بإنجائهم من كل كرب، وقوله تعالى: {قل مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}(الأنعام: 63)؟ استفهام تقريري، مطلوب الجواب عليه، ممن يدخلون في مثل هذه التجربة القاسية، التي لا يسلم منها إنسان، في أحواله وظروفه جميعها، وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال بقوله تعالى: {قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 64)، والخطاب في الآيتين موجه للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، بأن يقول لهؤلاء الجاحدين إن أجابوك وإن لم {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها} من تلك الظلمات المؤدية لهلاككم {وَ} وينجيكم أيضاً هو وحده {مِنْ كُلِّ كَرْبٍ} لا أحد غيره ، ووقفت الحلقة كذلك عند النجاة من الكرب العظيم، الذي تفضل الله به على عباده بلطفه سبحانه وحكمته وقضائه وقدره، وفي سياق الإخبار عن حالات بارزة من تفريج الكروب، وصف الله الكرب بالعظيم، في ثلاث آيات قرآنية.
وَأكد الله مبدأ تفريج الكرب العظيم عن عباده، في ثلاث آيات قرآنية، اثنتين منهما يخصان نوحاً، عليه السلام، وأهله، وذلك في الآية 76 في كل من سورتي الأنبياء والصافات، وَالْمُرَادُ بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ فِي هاتين الآيتينِ: الْغَرَقُ بِالطُّوفَانِ الَّذِي تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ الْعِظَامُ، وَالْكَرْبُ: هُوَ أَقْصَى الْغَمِّ، وَالْأَخْذُ بِالنَّفْسِ، أما الآية الثالثة فهي 115 من سورة الصافات، وتخص إنجاء موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم.
إمهال المعسر
ومن سور تفريج كروب المكروبين، إمهال المعسرين، الذين يتعثرون في سداد ما عليهم من ديون مالية للآخرين، وقد حث الرحمن الرحيم، على إمهال المعسر، فقال عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:280)
والإعسار الواجب للإنظار، هو الإعدام، وهو شدة الفقر، أو كساد المتاع ونحوه. (إيجاز البيان عن معاني القرآن، 1 /175) وفي { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } حكم الله للمعسر بالإنظار إلى أن يوسر، وقد كان قبل ذلك يباع فيما عليه، و{فَنَظِرَةٌ} مصدر معناه التأخير.(التسهيل لعلوم التنزيل، 1 /175)
وبهذا الصدد يعقب د. عبد الكريم الخطيب، فيقول: وحين يستجيب المؤمن لأمر اللّه بترك الرّبا، وأخذ ما أقرضه دون زيادة، فإن عليه أن ينظر في حال المدين، فإن كان معسراً ـ وهو ما يكون غالباً ـ ترفّق به، ومدّ له في الأجل إلى أن يتدبر أمره، ويتهيأ له الظرف المناسب لأداء ما عليه من دين، فذلك ما تمليه عاطفة الرحمة والمودّة، وما تقتضيه المروءة في مثل هذه الحال، ثم هو فوق ذلك عمل مبرور، له ثوابه وجزاؤه عند اللّه، وخير من هذا وأعظم ثواباً وأحسن جزاء عند اللّه، هو أن يتصدق الدائن بدينه على المدين كله، أو بعضه، حسب ما يرى الدائن من حال المدين.
وفي الدعوة إلى التصدق بالدّين على المدين هنا ما يشير إلى أن هؤلاء الذين تضطرهم أحوالهم إلى الدين إنما هم ـ في الغالب الأعم ـ الفقراء، الذين لا يجدون من مالهم ما يستجيب لحاجتهم من ضرورات الحياة، فيمدّون أيديهم إلى ذوي اليسار ممن يتوسمون فيهم المروءة، ليعينوهم بشيء من مالهم، على أن يكون ذلك ديناً يرد إليهم في أجل معلوم! فإذا سخت نفس الإنسان أن يقدم هذا العون للمحتاج في صورة دين، فإن الأجمل والأكمل أن يحتسبه صدقة عند اللّه، على ألا يجرح بذلك مشاعر المدين، وألّا يمنّ عليه، ويفضحه، بأن يقول له على سبيل المباهاة، أو الإيذاء والانتقام: تصدقت عليك بما لي عليك من دين، فذلك مما يذهب بصدقته ويمحقها، والطريق الأمثل في هذا ـ إن رأى أن يتصدق بدينه ـ أن يترك المدين، فلا يطالبه بالدين، تصريحاً أو تلميحاً، فإن أيسر المدين أدى إليه دينه، وإن ظل على إعساره أمسك عنه، ولم يطالبه.
و{كان} في قوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} تامة، بمعنى وجد، أي وإن وجد في المدينين ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، إذ ليس كلّ المدينين على حال واحدة من الإعسار! (التفسير القرآني للقرآن ، 1/353-354)
إنظار مطلق المعسرين
بعض المؤولين قالوا إن جملة {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} هي في صدد الربا موضوع الكلام والسياق، وإنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة، وليست في صدد الدين بصورة عامة، الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة إلخ، في حين قال بعضهم إنها تشمل الدين مطلقاً. والجملة مطلقة بحيث يكون الرجحان للقول الثاني، وقد أورد هؤلاء أحاديث في صدد التيسير على المعسر مطلقاً، مما فيه تأييد للقول الثاني. (التفسير الحديث، 4100)
ومما ورد في السنة النبوية بشأن فضل إمهال المعسرين، ما جاء في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: "إِنِّي مُعْسِرٌ. فَقَالَ: آللَّهِ، قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» (صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب فضل إنظار المعسر)
وعن أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ". (صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب من أنظر معسراً)
وبذا تظهر بوضوح أهمية إمهال المعسرين، فهي خدمة من العباد للعباد، وفي المحصلة تكون عبادة يتقرب بها العبد لله، وتعمل على توثيق علاقته بإخوانه والمنتفعين من مساعدته وصبره على إنظار المعسرين منهم.
ستر العيوب والعورات
يعقب النووي على قوله، صلى الله عليه وسلم: "...وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فيقول: في هذا فضل إعانة المسلم وستر زلاته، والستر المندوب إليه هنا هو الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس هو معروفاً بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله هذا، كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها، وهو بعد متلبس بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه، قال العلماء في القسم الأول الذي يستر فيه هذا الستر مندوب، فلو رفعه إلى السلطان ونحوه لم يأثم بالإجماع، لكن هذا خلاف الأولى، وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه، والله أعلم. (صحيح مسلم بشرح النووي، 16 /135، بتصرف)
ويبين العيني أن قوله: "ومن ستر مسلماً" أي رآه على قبيح، فلم يظهره للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه خفية.
وفي الحديث حض على التعاون وحسن المعاشرة والإلفة والستر على المؤمن، وترك التسمع به، والإشهار لذنوبه. وفيه أن المجازاة قد تكون في الآخرة من جنس الطاعة في الدنيا. وهذا الحديث يحتوي على كثير من آداب المسلمين. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 19 /242-243)
خاتمة
بهذه الوقفة تختم حلقات الحديث عن جوانب تعزيز إجراءات توطيد علاقة المسلم بالمسلم، وإطفاء ما يفسدها، وقد دارت محاور هذه الحلقات حول: الأخوة بين المسلمين، ومشروعيتها وإرساء مبادئها، وبيان بعض مقتضياتها، وحب المسلم الخير لأخيه، ووعظ الأخ أخاه وإرشاده ونصحه، وفضل الدعاء للأخ، خاصة بظهر الغيب، وخطيئة تكفير الأخ، والتحلل من مظلمة الأخ في الدنيا قبل يوم الحساب في الآخرة، والتحذير من الظن، والنهي عن التجسس والتحسس، وعن التباغض، وأمرهم بأن يكونوا إخواناً، وتحريم الخطبة على خطبة الأخ، وقضاء حاجات الإخوة، والتعاون بينهم على البر والتقوى، وتفريج الكرب، وما يقابل ذلك من جزاء من جنس العمل، لكن مع فرق في القدر والأثر.
وتعلقت خاتمة هذه الحلقات بإمهال المعسر، مع التأكيد على أن الإنظار المطلوب للمعسرين يعم مطلقهم، إضافة إلى الحث على ستر العيوب والعورات، وربط أجر الساترين بمثوبة آخروية من جنس ما عملوا، فالله يسترهم في الآخرة كما سبق لهم أن ستروا عباده في الدنيا.
راجين الهداية لنا وللمسلمين كافة والتوفيق لنوطد علاقاتنا ببعض، على الوجه المشروع، عملاً بتوجيهات القرآن الكريم وسنة الرسول، الأسوة صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
16 جمادى الأولى 1447هـ