عن أَبي هُرَيْرَةَ، قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يقول: (صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وثلاثة أَيَّامٍ من كل شَهْرٍ، صَوْمُ الدَّهْرِ)(مسند أحمد بن حنبل، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، رضي الله عنه، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات)
وقفت الحلقة السابقة عند الأمر الرباني للمؤمنين بالصبر والمصابرة، وذلك في الآية (200) من سورة آل عمران، وهي الأخيرة منها، ومعناها غالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل صبراً منهم، وثباتاً، والمصابرة باب من الصبر، والأمر بالمصابرة في هذه الآية الكريمة يلتقي معه بيان فضل التصبر الذي حث عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وهما يحتاجان إلى إعداد وترويض وتربية، وللصبر والمصابرة ثمار كثيرة، من أبرزها أن الله يعين الصابرين وينصرهم، ويكون معهم في ظروفهم وأحوالهم جميعها، والله يثبت الصابرين، والمصابرون أولى بذلك، لأنهم يمتازون بتحليهم بصبر مضاعف وأشد، ليتمكنوا من التغلب على أعدائهم بهذا السلاح القوي والمتين.
رمضان شهر الصبر
حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أعلاه، يصف فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، شهر رمضان بأنه شهر الصبر، قال الطبري: الصبر منع النفس محابها، وكفها عن هواها، ولذلك قيل لمن لم يجزع صابر؛ لكفه نفسه، وقيل لرمضان شهر الصبر؛ لكف الصائم نفسه عن المطعم والمشرب.(فتح الباري:3/172)
وبين بعض العلماء أن الصوم هو المراد من الصبر في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}(البقرة:45) يقول الرازي: ذكروا في الصبر والصلاة وجوهاً:
أحدها: كأنه قيل: واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا، والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد، صلى الله عليه وسلم، بالصبر، أي بحبس النفس عن اللذات، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه، وخف عليها، ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر، لأن المشتغل بالصلاة لا بد أن يكون مشتغلاً بذكر الله عز وجل وذكر جلاله وقهره، وذكر رحمته وفضله، فإذا تذكر رحمته صار مائلاً إلى طاعته، وإذا تذكر عقابه ترك معصيته، فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة، وتركه للمعصية.
وثانيها: المراد من الصبر هاهنا هو الصوم، لأن الصائم صابر عن الطعام والشراب، ومن حبس نفسه عن قضاء شهوة البطن والفرج، زالت عنه كدورات حب الدنيا، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى، وإنما قدم الصوم على الصلاة؛ لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدم على الإثبات، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: (الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّار)(سنن النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب، وصححه الألباني) وقال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(العنكبوت: 45) لأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا، وتخشع القلب، ويحصل بسببها تلاوة الكتاب، والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة، وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب، رغبة في الآخرة، ونفرة عن الدنيا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 153).(التفسير الكبير:3/46)
ثمرات صبر الصائمين
وصف رمضان بأنه شهر الصبر يشير إلى حاجة الصائمين للصبر، سواء في التقيد بالإمساك عن المفطرات المباشرة، من طعام وشراب وجماع في نهار الصيام، فذلك يحتاج إلى مجاهدة وصبر وتحمل مشاق الجوع والعطش، والخروج عن مألوفات اعتاد عليها المرء دون صيام، ويضاف إلى ذلك الجهد المضاعف المطلوب للاستقامة وتهذيب السلوك، والصائم يزداد دربة في الصيام على الصبر من خلال ضبط أعصابه فيمتنع عن ردات الفعل المتسرعة، حتى لو كان لها مسببات، فهو مأمور بكظم الغيظ، والرد على المسيء بلطف بالغ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، يقول: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (قال الله: كُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ له إلا الصِّيَامَ، فإنه لي، وأنا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أو قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إني امْرُؤٌ صَائِمٌ...)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم)
وبشكل عام يلزم الصائم التحلي بالصبر في تربية نفسه، وتهذيب سلوكه، وبخاصة فيما يطلب للبعد عن اللغو والفحش، فعن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: (من لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)(صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور ...)، وعلاقة الصيام بالصبر تبادلية، فالصائم يحتاج إلى صبر، وصبر الصائم يكسبه دربة على الصبر العام.
فالصوم مدرسة رحبة للصبر وتهذيب السلوك، يرتقي في رحابها الصائم في المعالي والمكارم.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
القواعد التي أرسيت في آيات وأحاديث الحث على الصبر والتصبر، تنسحب على أحوال مشابهة للتي قيلت بشأنها، فالعبرة عند الأصوليين بعموم اللفظ، وليست بخصوص السبب، فمن يتصبر عن المسألة وغيرها يصبره الله، ومن يصوم فرض رمضان، ويتطوع بالنوافل يضاعف الله له المثوبة، وهو القائل سبحانه في الحديث القدسي الذي يرويه عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلي عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلي مِمَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلي بِالنَّوَافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فإذا أَحْبَبْتُهُ كنت سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِه، وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، وَرِجْلَهُ التي يَمْشِي بها، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيْءٍ أنا فَاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عن نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)(صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع)
بشرى للصابرين
عقب الله على تلقي المبتلين من المؤمنين ما يصيبهم من مصائب بقولهم: "إنا لله وإنا إليه راجعون" بتبشيرهم بصلوات من ربهم ورحمة وهم مهتدون، فقال عز وجل: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة:157)
وهذه بشرى عظيمة صادرة عن رب رؤوف رحيم، صادق الوعد والعهد، وقف عندها صاحب التسهيل لعلوم التنزيل، فقال: والصابرون على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع، وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان، وعدم التكبر بها، وصبر على الطاعة، بالمحافظة عليها والدوام، وصبر عن المعاصي، بكف النفس عنها، وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهراً، وترك الكراهة باطناً، وفوق التسليم الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب محبوب.(التسهيل لعلوم التنزيل:1/65)
هدانا الله لنكون من الصابرين المصابرين المتصبرين، وأعاننا على الصيام بصبر وإخلاص ورباطة جأش، مكتفين في هذه المرحلة بما تيسر الوقوف عنده من فضل التصبر والأمر بالمصابرة، في ضوء ما تضمنته بالخصوص آيات القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
2 رمضان 1444هـ