يأمر الله المؤمنين بالمصابرة، فيقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران: 200)
وقفت الحلقة السابقة عند بعض فضائل كل من الاستعفاف والاستغناء والتصبر، والمقصود بهذه القيم، وجزاؤها عند الله، مع التنويه إلى الحادثة التي سأل فيها ناس من الأنصار رسول اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يمنحهم من خير موجود لديه، فَأَعْطَاهُمْ منه، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما لديه، وطمأنهم بأنه لن يدخر عنهم مما يكون عنده، ولقن الرسول، صلى الله عليه وسلم، الصحابي حَكِيمِ بن حِزَامٍ، درساً مشابهاً لما سأله وأعطاه ثلاث مرات، وقال له: (إِنَّ هذا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ له فيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لم يُبَارَكْ له فيه، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى).(صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة")
وبالنسبة إلى التصبر فمعناه هنا ترك السؤال، والصبر إلى أن يحصل الرزق، فليس الغنى بكثرة المال، وإنما في حسن التعامل مع الأحوال، فقد يكون المرء فقيراً متعففاً عن السؤال، على الرغم من فاقته وفقره، بخلاف الذين يملكون، ولا يقنعون، ولا يستغنون، ممن لو أعطي أحدهم وَادِيًا من ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ له وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلا التُّرَابُ، والمتصبر لا يكون من صنف هؤلاء، وإنما من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
والتصبر يعني المعالجة بالصبر، وفيه معنى التكلف، ومن يتصبر يرزقه الله صبراً، وهو من باب التفعيل، ومقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قدم على الصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}(البقرة:45). وبه تتسع المعارف والمشاهد، والأعمال والمقاصد.
الأمر الرباني بالصبر والمصابرة
الآية القرآنية الكريمة المثبت نصها أعلاه، تتضمن أمراً من رب العزة للمؤمنين بالمصابرة، ومعناها صابروا أعداء الله في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، لا تكونوا أقل صبراً منهم، وثباتاً، والمصابرة باب من الصبر، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصاً لشدته وصعوبته. (الكشاف: 1/488-489)
والأمر بالمصابرة في هذه الآية الكريمة يلتقي معه بيان فضل التصبر الذي حث عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، والتصبر والمصابرة يحتاجان إلى إعداد وترويض وتربية، يقول الرازي: واعلم أن الإنسان وإن تكلف الصبر والمصابرة، إلا أن فيه أخلاقاً ذميمة تحمل على أضدادها، وهي الشهوة والغضب والحرص، والإنسان ما لم يكن مشتغلاً طول عمره بمجاهدتها وقهرها، لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة، فلهذا قال تعالى: {وَرَابِطُواْ}(آل عمران: 200)، ولما كانت هذه المجاهدة فعلاً من الأفعال، ولا بد للإنسان في كل فعل يفعله من داعية، وغرض، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث، وذلك هو تقوى الله، لنيل الفلاح والنجاح، فلهذا قال تعالى في التعقيب على الأوامر المتضمنة في الآية التي ختمت بها آيات سورة آل عمران: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}.(التفسير الكبير:9/126، بتصرف)
اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ
للصبر والمصابرة ثمار كثيرة، من أبرزها أن الله يعين الصابرين، وينصرهم، ويكون معهم في ظروفهم وأحوالهم جميعها، ومن الآيات القرآنية الكريمة التي أكدت أن الله مع الصابرين، تلك التي عقب الله فيها بهذا بعد أمر المؤمنين بالاستعانة بالصبر والصلاة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:153)
وليست هذه الآية وحيدة في القرآن التي تختم بهذا الإخبار الرباني، فالتعقيب على قصة طالوت وجالوت، كان بقوله تعالى: {وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 249) فقال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة:249) وفي آيتين من سورة الأنفال 46 و66، تعقيبان مماثلان، فقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال:46) وقال عز وجل: { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الأنفال:66)
تثبيت الصابرين والجنة لهم بغير حساب
من معية الله للصابرين تثبيتهم وشد أزرهم، ومن تلك المعية تثبيت الصابرين، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد:7) والجنة للصابرين، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}(القصص:80)، والصابرون يجزون أجرهم وثوابهم وجزاءهم في الجنة بغير حساب، مصداقاً لقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر:10)
وإذا ثبتت هذه الثمار وما شابهها للصابرين فالمصابرون أولى بها؛ لأنهم يمتازون بتحليهم بصبر مضاعف وأشد، ليتمكنوا به من التغلب على أعدائهم بهذا السلاح الفظيع.
هدانا الله لنكون من الصابرين المتصبرين، ووفقنا سبحانه لمتابعة الحديث في الحلقة القادمة عن فضل التصبر، في ضوء ما تضمنته بالخصوص آيات القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
25 شعبان 1444هـ