.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يبين فضل التصبر - الحلقة الأولى

==========================================================

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ: فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ (يَسْتَعِفَّ) يُعِفَّهُ (يُعِفُّهُ) اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة(
يشير الرسول، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث الشريف إلى فضائل كل من الاستعفاف، والاستغناء، والتصبر، والمقصود بالاستعفاف هنا، تجنب سؤال الحصول على الماديات، والاستغناء يكون في الاكتفاء بالمتيسر، بدلاً من اللجوء إلى المسألة، والتصبر ترويض النفس على الصبر، وهذا يحتاجه المتعفف والمستغني بشدة، فلا يوفق إليهما فاقد الصبر.
وجزاء هذه المكارم من الله موضح في الحديث، فالمستعفف يعفه الله، أي يصنه عن ذلك، والمستغني يغنيه الله؛ أي يمده بالغنى من عنده سبحانه، والمتصبر يصبره الله؛ أي يوفقه الله ليصبر ويعينه عليه، ويستطرد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في بيان فضل الصبر، مبيناً أنه خير عطاء وأوسعه، يقول الباجي: يريد أنه أمر يدوم له الغنى به؛ لأنه لا يفنى، ومع عدمه لا يدوم له الغنى بما يعطى وإن كثر؛ لأنه يفنى، وربما يغنى ويمتد الأمل إلى أكثر منه مع عدم الصبر. (تنوير الحوالك، 2/259)
مناسبة الحديث وما يرشد إليه
يخبر الصحابي أبو سعيد الخدري، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الحديث أعلاه عن حادثة جرت في عهد النبوة، حيث سأل ناس من الأنصار رسول اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يمنحهم من خير موجود لديه، فَأَعْطَاهُمْ منه، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما لديه، وعقب على ما جرى بطمأنتهم بأنه لن يدخر عنهم مما يكون عنده، ويبين ابن حجر العسقلاني معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ)؛ أي لن أجعله ذخيرة لغيركم، معرضاً عنكم، بمعنى لن أحبسه وأخبؤه وأمنعكم إياه، منفرداً به عنكم. ويستخلص فوائد من الحديث فيقول: وفيه ما كان عليه من السخاء، وإنفاذ أمر الله، وفيه إعطاء السائل مرتين، والاعتذار إلى السائل، والحض على التعفف، وفيه جواز السؤال للحاجة، وإن كان الأولى تركه، والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة. (فتح الباري، 3/336)
وهناك حادثة شبيهة بقصة هذا الحديث الشريف، جرت مع الصحابي حَكِيمِ بن حِزَامٍ، قال: (سَأَلْتُ النبي، صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قال: هذا الْمَالُ - وَرُبَّمَا قال سُفْيَانُ قال لي يا حَكِيمُ- إِنَّ هذا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ له فيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لم يُبَارَكْ له فيه، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى) (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: هذا المال خضرة حلوة)
وقوله: (كَالَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ)؛ أي الذي يسمى جوعه كذاباً؛ لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقماً، ولم يجد شبعاً.(فتح الباري، 3/336)
معنى التصبر وفضله
يبين ابن حجر العسقلاني أن قوله: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ) أي يعالج نفسه على ترك السؤال، ويصبر إلى أن يحصل له الرزق، وقوله: (يُصَبِّرْهُ اللهُ)؛ أي يقويه، ويمكنه من نفسه، حتى تنقاد له، ويذعن لتحمل الشدة، فعند ذلك يكون الله معه، فيظفره بمطلوبه. (فتح الباري، 11/304)
وقال الطيبي: معنى قوله: (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ (يَسْتَعِفَّ) يُعِفَّهُ (يُعِفُّهُ) اللهُ)؛ أي إن عف عن السؤال، ولو لم يظهر الاستغناء عن الناس، لكنه إن أعطى شيئاً لم يتركه، يملأ الله قلبه غنى، بحيث لا يحتاج إلى سؤال، ومن زاد على ذلك، فاظهر الاستغناء فتصبر، ولو أعطي لم يقبل، فذاك أرفع درجة، فالصبر جامع لمكارم الأخلاق. وقال ابن التين: معنى قوله: (يُعِفُّهُ اللهُ) إما أن يرزقه من المال ما يستغني به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة، والله أعلم. (فتح الباري، 11/304- 305)
ويؤكد الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعض هذه المعاني، فيقول: (ليس الْغِنَى عن كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس)، فليس الغنى بكثرة المال، وإنما في حسن التعامل مع الأحوال، فقد يكون المرء فقيراً متعففاً عن السؤال على الرغم من فاقته وفقره، ممن قال الله تعالى فيهم: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة:273)، بخلاف صنف الناس الذين يملكون، ولا يقنعون ولا يستغنون، ممن قال فيهم الرسول، صلى الله عليه وسلم: (لو أَنَّ لابن آدَمَ وَادِيًا من ذَهَبٍ، أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ له وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ الله على من تَابَ) (صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال) والمتصبر لا يكون من صنف الناس هؤلاء، وإنما من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)؛ أي من يعالج الصبر، وهو من باب التفعل فيه معنى التكلف، (يُصَبِّرْهُ اللهُ)؛ أي يرزقه الله صبراً، وهو من باب التفعيل. وقوله: (عَطَاءً)؛ أي شيئاً من العطاء. (عمدة القاري، 9/49)
وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قُدم على الصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 45)، ومعنى كونه (أوسع) أنه تتسع به المعارف والمشاهد، والأعمال والمقاصد. (تحفة الأحوذي 6/143-144)
هدانا الله لنكون من الصابرين المتصبرين، المستغنين المتعففين، ووفق سبحانه لمتابعة الحديث في الحلقة القادمة عن فضل التصبر، في ضوء ما تضمنته بالخصوص آيات القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم ، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
10 شعبان 1444هـ

تاريخ النشر 2023-03-10
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس