عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ). (صحيح البخاري)
يتعلق هذا الحديث الشريف بسنة التطيب للإحرام والحل منه، التي يحسن التذكير بها، وبيان الأحكام ذات الصلة بها، عملاً برأي جمهور الفقهاء، لتصحيح فهم بعض الناس الذين يحجمون عن التطيب للإحرام تحرزاً منهم عن ارتكاب محظور من محظوراته، علماً أن التطيب للإحرام يختلف عن التطيب بعده، وقبل التحلل منه.
التطيب للإحرام والحل
قول عائشة في الحديث أعلاه: (لإحرامه) أي لأجل إحرامه، وفي رواية مسلم عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ). (صحيح مسلم)
قول: (ولحله) أي ولتحلله من محظورات الإحرام، وذلك بعد أن يرمي ويحلق. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14 /261 بتصرف)
وعَنْها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ). (صحيح البخاري)
يبين ابن باز في تعليقه على صحيح البخاري، أن المحرم لا يلبس شيئاً مسه الزعفران، وأما الطيب فلا يمنع استدامته على البدن.
واستدل به على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام، وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام وهو قول الجمهور، وعن مالك يحرم ولكن لا فدية. (صحيح البخاري تعليق ابن باز ج3 ص396-398بتصرف)
ويبين العيني أن معنى قول: (وبيص الطيب) بفتح الواو وكسر الباء بعدها ياء، وهو البريق واللمعان، وقال الإسماعيلي: (وبيص الطيب) تلألؤه، وذلك لعين قائمة لا للريح فقط، وقال ابن التين، هو مصدر وبص يبص، وقول: (في مفرق النبي، صلى الله عليه وسلم) وهو مكان فرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس.
ومما يستنبط منه أن بقاء أثر الطيب على بدن المحرم إذا كان قد تطيب به قبل الإحرام غير مؤثر في إحرامه، ولا يوجب عليه كفارة، قاله الخطابي، وقال النووي: منعه مالك. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 5 /263 بتصرف)
لبس المحرم الثياب المعصفرة
المحرم لا يلبس شيئاً مسه الزعفران، وأما الطيب فلا يمنع استدامته على البدن. (فتح الباري تعليق ابن باز، 3 /396)
يبين العيني أن الزعفران اسم أعجمي، وقد صرفته العرب، فقالوا: ثوب مزعفر، وقد زعفر ثوبه، يزعفره زعفرة، ويجمع على زعافر، والورس بفتح الواو، وسكون الراء وفي آخره سين، وقال أبو حنيفة: الورس يزرع بأرض اليمن زرعاً، ولا يكون بغير اليمن، ولا يكون منه شيء برياً، ونباته مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه تفتق، فينفض منه الورس، وقال الجوهري: الورس نبت أصفر يكون باليمن، يتخذ منه الغمرة للوجه، وهو يشبه زهر العصفر، ومنه شيء يشبه نشارة البابونج، ومنه شيء يشبه البنفسج، ويقال: إن الكركم عروقه. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 14/272 بتصرف)
ودليل منع المحرم من ارتداء ثوب مسه الزعفران، حديث ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا وَرْسٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ). (صحيح البخاري)
قول: (ما يلبس المحرم؟) فقد سئل، صلى الله عليه وسلم، عما يلبس، فأجاب عما لا يلبس؛ لأن المتروك منحصر، والملبوس لا ينحصر؛ والإباحة هي الأصل، فحصر ما يترك ليبين أن ما سواه مباح، وهذا من بديع كلامه وجزله وفصاحته. وفائدة أخرى: وهو مراعاة المفهوم، فإنه لو أجاب بما يلبس لتوهم المفهوم، وهو أن غير المحرم لا يلبسه، فانتقل إلى ما لا يلبسه؛ لأن مفهومه ومنطوقه مستعمل، فكان أفصح وأبلغ وأوجه، وقد أجيب بأن السؤال كان من حقه أن يكون عما لا يلبس؛ لأن الحكم العارض المحتاج إلى البيان هو الحرمة، وأما جواز ما يلبس فثابت في الأصل، معلوم بالاستصحاب؛ فلذلك أتى بالجواب على وفقه تنبيهاً عليه.
وقال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في الحديث لا يلبسه المحرم، وإن لباس ذلك جائز للرجال في غير الإحرام؛ لأن الخطاب إنما كان لهم، ولأن النساء مأمورات بستر رؤوسهن.
ونبه بالورس والزعفران على ما سواهما من أنواع الطيب، وهو حرام على الرجل والمرأة، والحكمة في تحريم الطيب أن يبعد من زينة الدنيا، ولأنه داع إلى الجماع، ولأنه ينافي حال الحاج، فإنه أشعث أغبر، ومحصله إرادة أن يجمع همه لمقاصد الآخرة.
قول: "ولا ثوباً مسه الورس" وقد عدل عن طريقة أخواته؛ لأن الطيب حرام على الرجل والمرأة، فأراد أن يعمم الحكم للمحرم والمحرمة، بخلاف الثياب المذكورة، فإنها حرام على الرجال فقط. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 3 /463-465 بتصرف)
وقد لبست عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهْيَ مُحْرِمَةٌ، وَقَالَتْ لاَ تَلَثَّمْ، وَلاَ تَتَبَرْقَعْ، وَلاَ تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ، وَلاَ زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لاَ أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الأَسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ بَأْسَ أَن يُبْدِلَ ثِيَابَهُ. (صحيح البخاري)
قوله: (ولبست عائشة الثياب المعصفرة) أي المصبوغة بالعصفر. (وهي محرمة) جملة اسمية وقعت حالاً، وهي محرمة، وقالت ـ أي عائشةـ : لا تلثم بتاء، وأصله تتلثم، فحذفت إحدى التاءين، وهي من اللثام وهو ما يغطي الشفة.
وقول جابر: (لا أرى المعصفر طيباً) أي قال جابر بن عبد الله الصحابي: لا أراه مطيباً. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14 /283 بتصرف)
غسل الخلوق من الثياب
في صحيح البخاري باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الثِّيَابِ، وفيه عن عَطَاء أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَرِنِي النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْجِعْرَانَةِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: "أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ: اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ". قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: نَعَمْ).(صحيح البخاري)
يبين الكشميري: أنَّ الخَلُوق اسم لنوع من الطيب، يُجعل فيه الزعفران، والزعفرانُ مباحٌ أكلاً، ومحرم تطيُّبًا لأجل اللون، ليس للمحرم فقط، بل للرجل في سائر أحواله، ثم إنَّ من تطيَّبَ قَبْل الإِحرام، وبقي أثره، أو عينُه بعده جاز عندنا، وإنما محذورُ إحرامه أن يتطيَّبَ بعد الإِحرام بخلاف اللباس، فإنَّ المحظورَ منه محظورٌ ابتداءً وبقاءً. وقالت المالكية: إن الباقي إن كان أثرًا للطيب، فجائزٌ، وإن كان عليه فلا. (فيض الباري شرح صحيح البخاري، 4 /201)
دلالة حب الطيب والترغيب به
يتماشى حرص النبي، صلى الله عليه وسلم، على التطيب قبل إحرامه، وعند حله من الإحرام، مع حبه العام للطيب والتطيب، فعن أنس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه و سلم: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". (سنن النسائي، وقال الألباني: حسن صحيح)
قيل: إنه إنما خص الطيب بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي. (شرح السيوطي لسنن النسائي، 5 /139)
ويبين السندي بأن حب النساء والطيب إذا لم يكن مخلاً لأداء حقوق العبودية، بل للانقطاع إليه تعالى، يكون من الكمال، وإلا يكون من النقصان. (حاشية السندي على النسائي، 7 /62)
وحبه، صلى الله عليه وسلم، للطيب والتطيب، ينضوي تحت الاستمتاع بالطيبات التي أخرجها الله لعباده، مصداقاً لقوله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32)، والمناسبات التي يجتمع فيها الناس في الجمع والأعياد وما شابه، تستدعي التطيب، وتجنب إلحاق الأذى بالآخرين من روائح تعافها نفوسهم، فعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ أَنَس بن مالك: مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ اللَّه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبْنَا، أَوْ لَا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا). (صحيح البخاري)
وتطيب المحرم قبل الشروع بالإحرام للحج أو العمرة فيه مراعاة لهذا الجانب، الذي يكون فيه إبعاد للأذى عن المخالطين من الناس، خاصة وأن أداء المناسك قد يؤدي إلى التعرق، وانبعاث روائح من الأبدان، فالاغتسال والتطيب يساعدان على تقليص الأذى، ودفع الضرر عن المخالطين، إضافة إلى ما في الطيب من تحقيق لرغبات فطرية خلق الله الناس على حبها والرغبة فيها.
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا دائماً وأبداً للتأسي بسنة رسولنا الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
25 ذو القعدة 1446هـ