عن أبي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)(صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)
المقصود بالمسرى هو المسجد الأقصى المبارك الذي أسرى الله بعبده ونبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، إليه، وأخبر عن ذلك في فاتحة سورة الإسراء، فقال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(الإسراء:1)
ربط عقيدي وتعبدي مميز
من خصائص المسرى -عدا عن كونه الوجهة التي كان المنطلق بالإسراء إليها من المسجد الحرام في مكة المكرمة- أنه يتشارك مع المسجدين العظيمين في أنحاء الدنيا بحصر قصده وإياهما في شد الرحال تعبداً لله بذلك، حسب المفهوم الواضح من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، مما يشير بوضوح وجلاء إلى عمق ارتباط هذه المساجد بعضها ببعض، فهو ارتباط عقيدي وتعبدي، قبل أن يكون سياسياً وتاريخياً كذلك. فكان يمكن للإسراء أن يتم من جوار الكعبة المشرفة في مكة المكرمة لأي مكان في الدنيا، لكن اختيار المسجد الأقصى ليكون هو الجهة للإسراء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، إليه هو أمر إلهي، ومن المحال أن يكون هذا الأمر الرباني قد تم دون قصد أو بلا هدف، وحق للمسلمين والباحثين التاريخيين وغيرهم، ومحللي الأحداث والوقائع أن يركزوا في دراساتهم لهذا الحدث الرباني العظيم دائماً على سر هذا الربط بين هذه الأماكن المقدسة والعظيمة ذات التاريخ العريق.
قبلة المسلمين الأولى
إضافة إلى ربط المسجد الأقصى المبارك بالمسجد الحرام في حادثة الإسراء، وربطه به وبالمسجد النبوي في حصر شد الرحال تعبداً إليه وإياهما، فهناك وجه آخر للربط المقدس بين المسجد الأقصى في بيت المقدس، والمسجد الحرام في مكة المكرمة، يتمثل في القبلة التي يتوجه إليها أو صوبها المسلم في صلاته حيثما وجد، فكان المسجد الأقصى القبلة الأولى، والمسجد الحرام القبلة الأخيرة، فالمسلمون توجهوا في صلاتهم إلى بيت المقدس أولاً، ثم أمروا بالتوجه إلى الكعبة المشرفة، فعَنْ الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ، رضي الله عنهما، قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ اليَهُودُ: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(البقرة: 142)، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي صَلاَةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فَتَحَرَّفَ القَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ)(صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان)
جاء في عمدة القاري أن قوله: (صلى نحو بيت المقدس) أي بالمدينة، صلى جهة بيت المقدس (ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً) فالشك من البراء، ونص النووي على صحة ستة عشر، والقاضي على صحة سبعة عشر، وهو قول أبي إسحاق وابن المسيب ومالك بن أنس، والجمع بينهما أن من جزم بستة عشر أخذ من شهر القدوم، وشهر التحويل شهراً، وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً، ومن شك تردد فيهما، وذلك أن قدوم النبي المدينة كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.(عمدة القاري: 4/135)
خبر القبلتين في القرآن الكريم
لا تقبل صلاة من مسلم دون التوجه إلى القبلة في صلاته، إلا في حالات استثنائية قاهرة أو طارئة، وخبر القبلتين ذكره القرآن الكريم، ففي سورة البقرة ذكر قضية القبلة في ثماني آيات قرآنية متتابعة، التي بدأت بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(البقرة: 143)
جاء في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز عن قتادة والسدي وعطاء وغيرهم أن القبلة هنا بيت المقدس، والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولاً إلا فتنة، لنعلم من يتبعك من العرب، الذين إنما يألفون مسجد مكة، أو من اليهود، على ما قال الضحاك، من أن الأحبار قالوا للنبي، صلى الله عليه وسلم، إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء، فإن صليت إليه اتبعناك، فأمره الله بالصلاة إليه امتحاناً لهم، فلم يؤمنوا. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 1/219- 220)
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا لفقه المزيد من أسرار الربط بين المسجد الأقصى والمسجدين الحرام والنبوي، لنزداد يقيناً بلزوم التمسك بهذه المساجد، وتوقيرها، وتعظيمها، والذود عنها بالغالي والنفيس، ونرجوه سبحانه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من جوانب هذه القضية المميزة، في ضوء ما تضمنته بالخصوص آيات القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
19 رجب 1444هـ