.:: الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم ::.

يحث على شد الرحال إلى مسراه - الحلقة الثالثة

==========================================================

عن أبي ذَرٍّ، رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرض أَوَّلَ؟ قال: المَسْجِدُ الحَرَامُ، قال: قلت: ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: المَسْجِدُ الْأَقْصَى، قلت: كَمْ كان بَيْنَهُمَا؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فإن الْفَضْلَ فيه) (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب منه)
تعرضت الحلقة السابقة إلى ركوب البراق في رحلة الإسراء، ووُصِفَ البراقُ في الحديث الشريف بأنه دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، ومن حكم استخدامه في الإسراء تأنيس النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه الرحلة الخارقة للمألوف والعادة، وفيه تكريم له، عليه الصلاة والسلام، من الله، فالملك إذا طلب من يحبه يبعث إليه مركوباً، ولله المثل الأعلى، إضافة إلى الأخذ بالأسباب، والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادة له في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي.
وفي ربط البراق في حلقة باب مسجد بيت المقدس الأخذ بالاحتياط في الأمور، وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى، والله أعلم. ومن صفات البراق الواردة في الأحاديث الصحيحة أنه (يضع خطوه عند أقصى طرفه)؛ أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره، والبراق من البريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البرق، لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم: "شاة برقاء"، إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض؛ لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض، ويحتمل أن لا يكون مشتقاً، وخص البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به؛ لأنه لم ينقل أن أحداً ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب.
المسجد الأقصى ثاني المساجد وجوداً في الأرض
حديث أبي ذر، رضي الله عنه، المثبت نصه أعلاه، والذي سأل فيه عن أول مسجد وضع في الأرض لعبادة الله، وعن الذي يليه في الوجود، يخبر فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، أن المسجد الأول هو المسجد الحرام، والذي تلاه في الوجود هو المسجد الأقصى المبارك، ثم أجاب عن السؤال الثالث، والمتعلق بالفترة الزمنية التي بعد فيها وجود المسجد الأقصى عن وجود المسجد الحرام، فقال عليه الصلاة والسلام: (أَرْبَعُونَ سَنَةً).
يبين العلماء الأفذاذ كابن حجر العسقلاني أن المراد بقوله: (المسجد الأقصى) يعني مسجد بيت المقدس، قيل له الأقصى: لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث، والمقدس المطهر عن ذلك. (فتح الباري 6/408)
وفي القرآن الكريم تأكيد لكون المسجد الحرام هو المسجد الأول، إذ يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (آل عمران:96)
يبين الرازي أن المراد من قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم، وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثِة مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرسول، صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)، فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس، وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في الأمور جميعها، حتى في وجوب الحج، فهذا غير لازم، والله أعلم. (التفسير الكبير، 8/125)
ووصف القرآن الكريم المسجد الحرام بالعتيق، في آيتين كريمتين من سورة الحج، فقال تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج:29)، وقال سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج:33) ومن تفسير المراد بلفظ العتيق هنا، أنه القديم لأنه أول بيت وضع للناس، وقيل: العتيق الكريم، كقولهم فرس عتيق، وقيل: أُعتق من الجبابرة؛ أي مُنع منهم، وقيل: العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط. (التسهيل لعلوم التنزيل، 3/40)

الرباط في المسجد الأقصى المبارك
كثيراً ما يوصف الذين يشدون الرحال إلى المسجد الأقصى في هذا الزمان بالمرابطين، كونهم يقومون بعمل عظيم تجاهه، وهو يعاني من الأسر والكيد والتدنيس، وهم يواجهون المصاعب، بل المخاطر على أنفسهم خلال شدهم الرحال إليه، ومكوثهم فيه، والدخول إليه والخروج منه، ووجودهم فيه يعد رباطاً في سبيل الله، إذ الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سُمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أم راجلاً، واللفظة مأخوذة من الربط. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء، هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، /560) فالذي يشد رحاله ليعتكف، أو يصلي، أو يكثر سواد المسلمين في المسجد الأقصى فهو مرابط، يرجى أن ينال ثواب المرابطين، الذين اعتبر رباطهم يوماً وليلة خير من الدنيا وما عليها، حسب حديث سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، قال: (رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما عليها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ من الْجَنَّةِ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما عليها، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ في سَبِيلِ اللَّهِ، أو الْغَدْوَةُ خَيْرٌ من الدُّنْيَا وما عليها). (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله)
سائلين الله العلي القدير أن يهدينا لنفقه المزيد من أسرار الربط بين المسجد الأقصى والمسجدين الحرام والنبوي، لنزداد يقيناً بلزوم التمسك بهذه المساجد وتوقيرها وتعظيمها، والذود عنها بالغالي والنفيس، ونرجوه سبحانه أن ييسر متابعة الوقوف عند مزيد من جوانب هذه القضية المميزة، في ضوء ما تضمنته بالخصوص آيات القرآن الكريم، وسنة خاتم النبيين محمد، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
3 شعبان 1444هـ

تاريخ النشر 2023-02-24
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس